مسائل وفوائد عن التداخل بين الإكراه والضرورة وعدم حصر أسباب إباحة بعض المحرمات بالإكراه والضرورة لوجود أسباب شرعية أخرى تبيح فعل بعض المحرمات بضوابط، ومسائل في الكفر وحصر حالات العذر للمعين

 

 
 
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاَةُ وَالسَّلَاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ، نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
 
❍  السؤال عن الإكراه والضرورة والمصلحة(۱): 
 
1_لايصح بناء الأحكام في تفاصيل المسائل على مجرد لفظ الضرورة والمصلحة والإكراه، ولكن ينظر لكل مسألة بعينها وبحسبها بعد فهم حقيقتها وأحوالها وملاباساتها.
 
لأن الوصف والحال قد يغير الحكم.
 
2_النصوص والآثار التي سنورد بعضها دلت على جواز فعل بعض المحرمات (للإكراه) (والضرورة):
 
←لعموم البلوى.
←وعموم حاجة الناس.
←للمصلحة الراجحة في أحوال.
 
وكل ذلك بضوابط شرعية وليس بالرأي والهوى كما فعل المرجئة وأهل الرأي والجهمية.
 
3_النصوص والآثار واللغة العربية تدل بأن هناك تداخلا بين الإكراه والضرورة؛ والضرورة أشمل من الإكراه، فكل إكراه ضرورة وليس كل ضرورة إكراه.
 
4_ وعلتها رفع الحرج ورفع الآصار والأغلال ويسر الشريعة وحفظ ما صانته الشريعة بضوابط.
 
5_ وقد أبيحت بعض الأمور للإكراه والضرورة بل أبيحت محرمات للمصلحة العامة والخاصة كذلك بضوابط كترك (عقوبة الحاكم لبعض المنافقين والمؤلفة قلوبهم عند الضعف والمصلحة الراجحة) التي يراها الإمام بالعلم والشورى وليس بالهوى والرأي والتشهي.
 
”والإجماع المنقول عن الصحابة والسلف في إهدار الحاكم القصاص في الدماء وإهدار تعويض الأموال في الفتنة؛ لمصلحة إخماد الفتنة كما فعل الصحابة في قتال الجمل وصفين، ولذلك لم يقتل علي قاتل الزبير -رضي الله عنهما-“
 
ومنها:
 
← إباحة مشي الخيلاء في الحرب؛ الذي أقره النبي -صلى الله عليه وسلم- من أبي دجانة رضي الله عنه.
← وكما قال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "أنقص من ديني لديني".
← وترك الأعرابي يكمل بوله في المسجد بعدم تنفيره وترويعه وهو يبول.
← وترك تسمية جزية تغلب بالجزية وتسميتها صدقة مع مضاعفتها.
 
وكل ذلك بضوابط شرعية وليس بمجرد الرأي والهوى.
 
6_ومما يباح لعموم البلوى:
 
← يسير النجاسة كحديث ابن عباس في المصنف فيما تطاير من ماء الاستنجاء.
- ومثله ما ورد في مسلم من إنكار الصحابي على من بال في قارورة خوف النجاسة ثم استدل ببول النبي ﷺ قائما.
 
وهذا فيه إشارة للعفو عن اليسير المتطاير.
 
← وكحك عائشة بريقها لنقطة من دم الحيض دون غسله كما في البخاري.
← والدم اليسير مع نجاسته كما في حديث ابن عمر وسيلان بثرته، وصلاتهم في جراحاتهم.
← وما ورد من العفو عن النجاسة في أسفل النعل بعد المشي عليه.
←وآثار عن الصحابة والسلف في العفو عن ما تذره الريح من يابس النجاسة في الثياب.
← والنضح من المذي.
←ونضح بول الرضيع الذكر.
 
7_ ومايباح لأجل حاجة الناس العامة ومصالحهم الاقتصادية في البيوع كإباحة الشريعة بعض البيوع المتضمنة بعض مانهي عنه:
 
← كنصوص الصحيحين وغيرها في إباحة المكيل بمايقدر من الخرص.
 
وهنا بعض الغرر الجائز لحاجة الناس العامة، وكذلك فيه استثناء بيع العرايا من عموم (تحريم بيع التمر بالرطب لما فيه من الربا)، ولكن بيع العرايا أبيح لحاجة الناس مع تحقق أمرين فيه وهما بعض الغرر وبعض الربا ولكن أبيح لحاجة الناس.
 
← وكذلك إباحة الشريعة لبعض البيوع التي يحتاجونها مع وجود بعض الغرر كالمزارعة على ماتنتجه الأرض.
← أو مع وجود بعض المخاطرة كبيع السَّلَم (السَّلَف).
 
 8_الإكراه يتحقق بالضرر مثل القتل أو السجن أو الجلد؛ وشرطه أن لا يجعل غيره من المسلمين فداء لنفسه فلايصح لمكره أن يقتل مسلما أو يزني بمسلمة كرها ليفدي نفسه من ضرر لأن حفظ نفسه من الضرر ليس بأولى من حفظ أخيه المسلم.
 
 9_الإكراه ليس بمجرد تهديد غير محقق؛ ولايباح قول الكفر للمصلحة كما يقول زنادقة المرجئة الجهمية المعاصرة، ولكن بإكراه شرعي مع طمأنينة القلب بالإيمان.
 
10_وليس كل مصلحة تجيز ارتكاب المحرم؛ وبعض الحاجات الملحة للناس تدخل في المصالح العامة التي تقدر بقدرها.
 
11_وما ثبت من آثار في الإكراه بالجلد والسجن هو نص في حفظ العرض من هتك عرض بفاحشة الزنا مثلا لأن العرض أولى من حفظ الجسد من الجلد؛ والإكراه للحفظ من القتل صريح في حفظ النفس بما هو دون القتل فكيف بالقتل. 
 
12_وأما المال (في غير الكفر) في بعض صوره أهون من ذلك كله، ويحتاج في بعض الصور خاصة لبحث ولاسيما مع تعدي ضرر أخذ المال لأضرار أخرى بدنية وغيرها، فليس لمسلم أن يتلبس بكبيرة دون الكفر لأجل حفظ جزء يسير من ماله ثم يدعي الضرورة.
 
13_والقول بأن الضرورات بمنزلة واحدة للتسوية بينهما في بعض الحالات قياسا على من قتل دون ماله.
 
فهذا ليس بدقيق وليس بصحيح لأن ما سوت فيه الشريعة من وجه لايصح المساواة بينهما من كل وجه، فحديث "لعن المؤمن كقتله" لايستويان من كل وجه مثل منع الإرث، ومثل تسوية الشرك الأصغر (القولي كالمثال الوارد) بالأكبر، وهما مع التسوية في الوصف العام لايستويان من كل وجه:
 
← كما روى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، فقال: "أجعلتني لله نداً؟ ما شاء الله وحده".
 
14_والضرورة في شرب خمر أو حشيش يزيل العقل فترة محدودة بشرط أن لا يغلب على ظنه ارتكاب ماهو أشنع من ذلك عند فقد عقله.
 
15_ومثال خرق السفينة و غلبة غرق السفينة إكراه محقق.
 
لأن الغرق والهلاك أو ما يقاربه من ضرر محقق فهو إكراه وهو أيضا ضرورة.
 
16_في نقطة (8) التي سألت عنها، هناك تداخل في المسائل وخلط بينها:
 
- أولا: العذر الشرعي الوارد في صريح النصوص والآثار لمن تلبس بالكفر يؤخذ من مجموع الأدلة والآثار وليس من دليل واحد مع ترك دلالة النصوص والآثار الأخرى.
 
وهذا هدي أهل البدع، فالشريعة تؤخذ أحكامها من مجموع النصوص والآثار ولايؤصل (على نص واحد مع مخالفته لغيره) إلا أهل البدع والرأي.
 
”وردت النصوص والإجماع والآثار بشأن حالات يعذر المعين فيها مع تلبسه بضلالات من كفر مخرج أو بدعة مفسقة، وراجع بحث أنواع الجهل(۲)
 
وسؤالك هنا عن حصرك للباب بآية الإكراه فيه خلط وعدم تمييز:
 
أ/- آية الإكراه تختص بنوع واحد من التلبس بالكفر مع العذر وهو حصر العذر في قول العامد القاصد لما يقوله من الكفر (ولم يكن في قوله ذاهلا بسبق لسان فهذه مسألة أخرى) بل قال الكفر قاصدا متعمدا لقوله غير ذاهل ولاساه ولكنه كان مكرها مع طمأنينة القلب بالإيمان.
 
ب/- وهناك أدلة أخرى لنوع آخر من التلبس بالكفر مع العذر للفاعل وهو من لم يقصد ويتعمد الفعل لذهول وسبق لسان:
 
← كمن أخطأ من شدة الفرح فقال "اللهم أنت عبدي" كما في تلك القصة الواردة في الحديث.
فهذا قد قال الكفر ذاهلا ساهيا بسبق لسان لم يقصد ويتعمد قوله.
 
← ومثله من وطيء المصحف وهو لا يعلم بأنه مصحفا.
وهؤلاء يعذرون لعدم تحقق شرط قصد وتعمد الفعل.
 
وتنبه جيدا فهناك نوعان من القصد والتعمد؛ يشترط قصد الفعل ولا يشترط قصد الضلال مع التفصيل الآتي.
 
”فقصد وتعمد الفعل شرط في التكفير للمعين كما دلت النصوص، وأما اشتراط قصد الضلال من كفرأو بدعة في تضليل المعين فهذا من شروط الجهمية العاذرية في تضليل المعين حين عذروا المعين حتى في مسائل الأصول المودعة في الفطرة كارتفاع الله وفوقيته وإفراده بالعبادة؛ وعذروا من تمكن من الأدلة حتى في أصول الدين الخبرية بل عذروا حتى العلماء الحفاظ في ذلك“
 
-> ولذلك يضلل المعين الذي قصد وتعمد فعله للضلال (أي تلبس بها غير ذاهل ولا ساه) في المسائل الخبرية السمعية إن تمكن من الأدلة؛ حتى لو لم يقصد أن يكفر أو يبتدع بهذا العمل لجهله أو تأويله أو لشبهة أو لتقليد، ولكنه قصد فعله وتعمد فعله مع ظنه بأن هذا العمل ليس من الضلال في شيء حتى لو ظنه قربة من القرب، وأكثر أهل البدع الكفرية وغيرها يتقربون لله ببدعهم وكفرياتهم.
 
-> ومما يعذر به المعين المتلبس بالكفر ما دل عليه إجماع السلف من عذر الجاهل كالعامي ضعيف الفهم للمسائل في (نوع خاص من المسائل وليس في كل مسألة يعذر الجاهل العامي كما زعم الجهمية العاذرية)، ولذلك أجمع السلف كما في إجماع الرازيين على عذر هؤلاء إن قال أحدهم "لفظي بالقرآن مخلوق" أو "شك في كفر الجهمية الخلقية"(۳).
 
ولكن لو شك هذا الجاهل العامي في كفر المشرك عابد القبور فلا عذر لمن عذره ولم يكفره حتى لو كان هذا العاذر من العوام الجهال.
 
-> ويعذر المعين إن تلبس بكفر ولم يبلغه الدليل في الخبريات من غير تفريط:
 
← كمن أسلم وهو ممن يعيش في أدغال لم يسمع أهلها بالإسلام وأحكامه وعندهم زواج الأخوات، فأسلم أحدهم وفي بداية إسلامه تزوج أخته مستحلا لذلك ولكن لم يبلغه الدليل ولم يكن مفرطا.
 
← وكمن أنكر صفة خبرية لله ولم يبلغه دليلها كمن أنكر صفة الضحك ولم يبلغه دليلها أو أنكر صفة العجب لله كشريح -رضي الله عنه- الذي لم يبلغه دليلها.
 
17_اللباس والتشبه؛ الأصل كما دلت النصوص كحديث مسلم وفيه نهي النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبدالله بن عمرو بن العاص عن لبس ثياب الكفار حين لبس المعصفر.
 
فالأصل أن لباس عامة الكفار (الخالي من الرموز الدينية واللباس الديني الخاص) ليس من الكفر الأكبر بل معصية، وبعض التشبه في مثل ذلك مع تفصيل، ولو كان كفرا لما كان نهيه لعبدالله بهذا الحال أو لدلت أدلة أخرى صريحة على جعله من الكفر، ولذلك فهو معصية، وأما اللباس الديني والمتضمن شعارات مِلَّتهم  فهو من الكفر.
 
”ولباس عامة الكفار غير المتضمن للباس الديني والشعارات يجوز في حالة المصلحة في الحرب كالتجسس والأصل في مثل ذلك إباحة القول المحتمل تورية في عداء الإسلام والمسلمين“
 
← كما فعل ابن مسلمة -رضي الله عنه- كماروي في الصحيحين عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- (واللفظ للبخاري) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: من لكعب بن الأشرف؟ فقال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله؟ قال: نعم! قال: فأذن لي فأقول. قال: قد فعلت.
 
وهذا تورية وتعريض محتمل غير صريح.
 
← وكذلك "مشية الخيلاء" في الحرب.
 
كل ذلك وغيره من أدلة جواز ارتكاب بعض المحرمات في مصلحة الحرب.
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 
 
 
 
 
 
 وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين. 
 
 
 
  
 
 
 

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *