البربهاري - رحمه الله - إمام سنة ولكنه "غير معصوم".

 
 
 
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاَةُ وَالسَّلَاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ، نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
 
- أولا: الموقف من أئمة السنة عند وقوع زلة من أحدهم (ليست من كبار البدع والضلالات وإنما من قبيل الشذوذ أو خطأ العبارة في سياق صحيح كما حدث للبربهاري)، والموقف منهم كالتالي:
 
أ/- معرفة قدرهم وتوقيرهم وإجلالهم والأدب معهم واختيار ألطف العبارات ووجوب الابتعاد عن كل ما فيه غمز أو تعريض أو تجهيل أو اتهام.
 
ورحم الله من عرف قدر نفسه، وإنما يعرف قدر ذوي الفضل ذووا الفضل.
 
ب/- الاعتذار عن الخطأ (وليس تبريره) وبيان سبب وقوعه وغالبا ستجد ما يخفف حدة هذا الخطأ وهذا ما ستراه في كلامنا عن زلة "الإمام البربهاري" -رحمه الله-.
 
ج/- الابتعاد عن الغلو ومنهج تبرير الخطأ وتصحيح الباطل (لأجل منزلة قائله) وهذا ما وقع فيه بعض من يزعم الدفاع عن أئمة السنة.
 
-> فخالفوا صريح النصوص والآثار والإجماع ليبرروا تلك الزلة.
 
-> وخالفوا مسلمات اللغة ولسان العرب ليصححوا ذلك الخطأ.
 
”وكان السلف يخالفون أكابرهم بأدب وحسن عبارة وسيأتي كيف انتقد "الإمام أحمد" "الثوري" و"ابن مهدي" في بعض أخطائهم“
 
- ثانيا: قال الإمام البربهاري عبارة مخالفة غير صحيحة في سياق مقارنته بين (صحبة أهل البدع و صحبة أهل الفسق) وهذه العبارة فيها الأمر بصحبة (الفاسق السني)؛ حين قال: "فَاَصْحَبْهُ وَاَجْلِسْ مَعَهُ فَإَنَّهُ لَيْسَ تَضُرُّكَ مَعْصِيَتُه"!
 
ونقول في سياق الاعتذار وليس التبرير:
 
أ/- السياق والمقصد والمراد ظاهر في بيان أن صحبة المبتدع شر من صحبة الفاسق السني.
 
- وهذا معنى صحيح ولكن "الإمام البربهاري" عبر عن ذلك بعبارة خاطئة لا تصح (لغة ولا شرعا) فخانه التعبير، وسياق المفارقة بين الصحبتين صحيح وكذلك المقصد والمراد الظاهر حسب السياق، ولكنه أخطأ في (العبارة وما قرره فيها) مما لا يستقيم لغة في أسلوب المفارقة في المقارنة بين الشرين.
 
ب/- بطلان عبارة البربهاري من جهة اللغة ولسان العرب وما ترتب عليها من الخطأ الشرعي المخالف للنصوص والآثار يتبين مما يلي:
 
1)- في لغة العرب ولسانها؛ المقارنة المجردة (في غير ظرف الاضطرار للفعل) بين شرين لا تقتضي أمرا بأهونهما وحثا عليه ولا تستلزم ولا تسوغ نفي الضرر عن أهون الشرين.
 
• وهذا لم يتحقق في سياق المقارنة الذي ذكره الإمام البربهاري بل كانت مقارنته مخالفة لذلك تماما.
 
- ومن صيغ المقارنة في اللغة؛ عدم لزوم واشتراط تحقق الوصف في أحد طرفي المقارنة بل قد يكون أحدهما لا يتصف بهذه الصفة وهناك صيغ للمقارنة لا يتحقق الوصف في كلا طرفي المقارنة.
 
-> كما جاء في الصحيحين من تبرير النساء -رضي الله عنهن- لخوفهن وهيبتهن من عمر -رضي الله عنه- أكثر من رسول الله ﷺ لرفقه بهن ولينه وكمال حلمه وخلقه، والشاهد: «.. قُلْنَ: نَعَمْ، أَنْتَ أَغْلَظُ وَأَفَظُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"؛ مع خلو رسول الله ﷺ من هذين الوصفين تماما.
 
- بل قد لا يراد حقيقة الوصف في كلا طرفي المقارنة في بعض صياغات اللغة.
 
-> ومما يندرج في ذلك ما جاء عن بعض السلف «لأن يدخل ابني على الفساق أحب إلى من أن يدخل على أهل الأهواء»؛ فالحب هنا لا يلزم تحققه في طرفي المقارنة بل كلاهما مبغوض مكروه.
 
- ولكنه أسلوب عربي يستعمله العرب في كلامهم.
 
-> ومن ذلك قول بعضهم «الحر المؤذي ولا البرد القاتل»؛ مع عدم إرادة وتمني القائل للأمرين معا وكرهه لحصولهما.
 
”ولو سلمنا ببعض ما قيل من تجويز العربي الفصيح في لغته تمني والثناء على ما لا يريده من أهون الشرين في سياق المقارنة فهذا قد يسوغ فيما لا معصية فيه ولا مصادمة لمنطوق النصوص في عبارته، وليس كل ما سوغته بعض أساليب اللغة جاز استعماله حتى لو ناقض صريح النصوص“
 
والمقصود أن تصحيح أو تبرير خطأ "البربهاري" لأجل سياق المقارنة غير صحيح لأن شرط المقارنة المجردة خلوها (من الأمر بفعل أهون الشرين دون ضرورة) وخلوها من الجزم بعدم الضرر! وهذا مالم يتحقق.
 
2)- كلمة ‹أهون وأيسر وأحب› الواردة في بعض النصوص والآثار في سياق المقارنة (المجردة عن الاضطرار للفعل) لا يصح الاستدلال والاستشهاد بها كما فعل البعض لكونها:
 
-> لا تدل من قريب أو بعيد على الأمر بفعل أهون الشرين لغير ضرورة وأهون الشرين هنا مصاحبة السني الفاسق.
 
-> وأيضا هذه المقارنة الواردة في النصوص والآثار، لا تجزم بعدم ضرر أهون الشرين.
 
وبمجموع هذين الأمرين يتبين لنا الاختلاف الجذري بين هذه المقارنة التي أجراها "البربهاري" وتلك المقارنات الواردة في النصوص والآثار ولغة العرب فلا يصح قياس هذه على تلك كما فعل معظم شراح السنة للبربهاري.
 
- ومثل ذلك تصحيح بعضهم لمعنى المقارنة التي نسبت للإمام "أحمد" وهي شاذة لا تصح، «قبور فساق أهل السنة روضة من رياض الجنة وقبور أهل البدعة حفرة من حفر النار».
 
- ولا يمكن أن يقول ذلك وقد ثبت عذاب القبر وعذاب جهنم أيضا لبعض المذنبين بما هو دون البدع والإحداث في الدين.
 
* وهل يخفى مثل هذا على صغار طلاب العلم فكيف بإمام السنة والحديث رحمه الله؟
 
وهذا لا يشبه كلام "أحمد" وتعبيراته ولا يناسب ورعه وشدة توقيه وحذره.
 
3/- عبارة الإمام البربهاري في مقارنته تضمنت هذين الأمرين المخالفين لصريح النصوص والآثار الناهية عن صحبة الفساق والمبينة لتحقق الضرر بصحبتهم، وكلمة ‹أهون وأيسر وأحب› في سياق المقارنة تختلف (لغة وشرعا) عن الأمر بفعل أهون الشرين دون ضرورة! والجزم بعدم الضرر!
 
والبربهاري قصد المعنى الصحيح بعبارة لا تصح شرعا ولاتستقيم لغة، ومن تأمل ودقق تمايز دلالات هذه العبارات من جهة اللغة مَيَّزَ بين ذلك وعرف حقيقة مخالفتها للشرع.
 
2/- لا يجوز تبرير خطأ "البربهاري" -رحمه الله-؛ نعم قد أراد البربهاري التعبير عن أمر صحيح ولكن خانته العبارة فجاء بصيغة لا تستقيم شرعا ولا يصح لغة مقارنتها بكلمة ‹أيسر وأهون› الواردة في بعض النصوص والآثار، والتي جاءت في سياق المقارنة المجردة عن عبارة تدل على الأمر بأهون الشرين وهو من المحرمات (الموحية بتسويغه) والمجردة أيضا عن نفي الضرر عن المحرم، وسياق المقارنة الخالي مما ذكر لا يدل لغة ولا شرعا ولا عرفا على ما تدل عليه عبارة "البربهاري" -رحمه الله-.
 
3/- قاعدة منهجية سلفية: «لا يصحح الخطأ ولا يبرر بحسن المقصد وصحة السياق عموما».
 
- ولذلك فأهل السنة لا يصححون الخطأ بحسن المقصد، وإلا هدمنا قواعد المنهج لأجل زلات بعض الأئمة، وجعل المقصد معيارا للتصحيح من هدي (المرجئة العاذرية)، ولا يعني هذا تبديع إخواننا الذين حملوا كلامه على المقارنة المجردة الصحيحة وبرروا خطأه لأجل ذلك، ولا يبدع ولا يضلل بمثل ذلك.
 
ولا نبدع ولا نضلل "البربهاري" بمثل هذه الزلة التي يدل السياق على مراده ومراده هنا المقارنة لا تجويز المحرم حسب السياق ذاته وحسب منهجه في شدته على العصاة والفساق.
 
4/- البربهاري أخطأ ويجب أن نقول "أخطأ" والخطأ في العبارة لغة وشرعا لا يصححها السياق الصحيح ولا صحة المقصد والمنهج.
 
* لماذا نقول يجب؟!
 
- لأن عبارته فيها التصريح:
 
أ/- بما يضاد الأدلة من جزمه بعدم ضرر صحبة الفساق.
 
* فهل نخالف صريح النصوص والإجماع لأجل زلته؟!
 
ب/- وعبارته فيها الأمر بصحبتهم.
 
وهذا أمر زائد عن أسلوب وسياق المقارنة المجردة.
 
5/- تصحيح الخطأ وتبريره (منهج خلفي) لا سلفي، فهذا الإمام "أحمد" مع تعظيمه وإجلاله "للثوري" و"ابن مهدي" يقول: «لم ينزل من السماء» في سياق تخطئة بعض أقوالهم -رحم الله الجميع-.
 
”والتجرد للحق ومراعاة دلالات النصوص والإجماع هو الواجب الذي يجب تقديمه على زلات الأئمة، وأما التبرير والتصحيح للخطأ بحجج واهية لا تستقيم (لغة وشرعا وعرفا)، فهذا فيه بعض التعصب والتقديس وتقديم كلام آحاد العلماء على النصوص من حيث لا نشعر، فالتبرير للخطأ منهج خلفي لا سلفي“
 
6/- لا يصح انتقاد الإمام البربهاري -رحمه الله- لتضليله لمن خالف شيئا في كتابه السنة لأجل ذكره في مواضع قليلة نادرة مسائل فقهية سائغة لا يجوز التضليل بها، وسبب ذلك مايلي:
 
أ/- كلامه في التضليل محمول على الأصل في كتابه والذي يغلب عليه ذكر مسائل التوحيد الكبرى التي هي مقصود كتابه ومسماه؛ وهذا التغليب معلوم في لغة العرب وفي النصوص الشرعية مثل قوله تعالى﴿تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا﴾، وقوله ﷺ: "فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ". 
 
ب/- وهذا التضليل لا يشمل المسائل الفقهية السائغة التي ذكرها في كتابه لكونها نادرة قليلة وليست مقصود الكتاب ولا مسماه ولا غالبه وسبب ذكر بعض الفقهيات السائغة في كتب السنة والتوحيد مخالفة بعض أهل البدع فيها واتخاذها شعارا.
 
▪ وأضاف الشيخ العامري حفظه الله بشأن معاملة فساق أهل السنة عند اشتداد الغربة فائدة نفيسة:
 
- بالنسبة لمقالة "البربهاري" -رحمه الله-: «وَإِذَاْ رَأَيْتَ اَلْرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ السُنَّةِ رَدِيءَ الطَّرِيْقِ وَاَلْمَذْهَبِ فَاْسِقًا فَاْجِرًا صَاْحِبُ مَعَاْصٍ ضَاْلّاً وَهُوَ عَلَى اَلْسُنَّةِ فَاَصْحَبْهُ وَاَجْلِسْ مَعَهُ فَإَنَّهُ لَيْسَ تَضُرُّكَ مَعْصِيَتُه»!
 
عبارة غير موفقة وليست محكمة ولو ساقها سياق مقارنة كما استشهد بأثر يونس بن عبيد -رحمه الله- لكان خيرا ولكن لو كان شيء لقضي - والله المستعان-.
 
- وأحسن ما تفهم منه المصاحبة والمجالسة على الموالاة والمحبة للسني ولو كان عاصيا قال أحمد -رحمه الله-: "أحبوا أهل السنة على ما كان منهم"، أما مصارمته وهجره فيفرق بين المستتر والمجاهر وبين من يتوب ويرجع وبين المصر المعاند وكل بدرجته وحكمه.
 
-> قال أحمد -رحمه الله-: «اذا كان الرجل معلنا بفسقه فليست له غيبة».
 
-> وقال الحسن البصري -رحمه الله-: «ليس للفاسق المعلن بفسقه غيبة».
 
-> وقال زيد بن أسلم: «إنما الغيبة لمن لم يعلن بالمعاصي».
 
لكن للشخص أن يهجر من علم منه المعصية ولو لم يجاهر اذا خاف عليه النفاق أو اتهم به أو اتهم بالكفر قاله "القاسم بن محمد" رواية عن "أحمد"، لكن لا يجوز التشهير به اذا كان مستترا كما قال أحمد في رواية الكوسج: «لا بل يستر عليه إلا أن يكون داعية».
 
-> قال الخلال في كتاب المجانبة: «..وَأَمَّا مَنْ سَكِرَ أَوْ شَرِبَ أَوْ فَعَلَ فِعْلًا مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْظُورَةِ، ثُمَّ لَمْ يُكَاشِفْ بِهَا، وَلَمْ يُلْقِ فِيهَا جِلْبَابَ الْحَيَاءِ، فَالْكَفُّ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، وَعَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْإِمْسَاكُ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، وَعَنْ الْمُسْلِمِينَ أَسْلَمُ..».
 
”وينبغي أن يراعى في هجر هذا النوع التمكن والضعف ففي حال الضعف وتسلط المشركين فربما لو اجتمع الموحدون على هجر الموحد السني الفاسق أوقع في نفسه الردة واللحاق بالكفار، فيعامل بالعظة والقول البليغ في نفسه ويذكر بالتي هي أحسن للتي هي أقوم“
 
- وهذا الأصل يرجع للتعزير والحدود في دار الحرب وإقامة الحد في دار الحرب بين الغزاة (مسألة خلافية) معروفة في مكانها لكن الذي مَنَعَ عَلَّلَ فقال كما روي عن حذيفة -رضي الله عنه- وغيره "لا نفعل نحن بإزاء العدو".
 
فقد يخفف حكم التعزير في أحوال معينة مع الموحد الفاسق غير المجاهر المصر ومع تذكيره ونصحه والستر عليه -والله أعلم-.
 
 
 وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين. 
 
 
 

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *