مفهوم "الاستحلال".

 
 




 
 
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 

- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاَةُ وَالسَّلَاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ، نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
 
1/- الاستحلال بحسب مدلوله ووضعه: معناه أن يأتي الانسان للحرام الذي حرمه الله -جل وعلا- أو الحرام المجمع عليه ويجعله حلالا أو ينفي التحريم عنه، ومدلول الإستحلال كمناط مكفر عند السلف أعم من هذا يدخل فيه أيضا تحريم الحلال.
 
-> ويشهد لهذا المعنى لما رواه الطبراني في {المعجم الكبير}(9/172) من طريق عبدالله بن رجاء، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، قال: كنت جالساً عند عبدالرحمن بن عبدالله، فأتاه رجلٌ يسأله عن ابنه القاسم؟ فقال: غدا إلى الكناسة يطلب الضباب. فقال: أتأكله؟ فقال عبدالرحمن: ومن حرمه؟ سمعت عبدالله بن مسعود يقول: "إن محرم الحلال كمستحل الحرام".
 
فلفظ الاستحلال يدخل فيه تحريم الحلال واستحلال الحرام.
 
2/- الاستحلال على نوعين:
 
أ/- الاستحلال بالتأويل (والباء باء السبب):
 
* لماذا استحل الحرام وحرم الحلال؟
 
- سببه التأويل؛ والتأويل في هذا المقام منه تأويل سائغ ومنه تأويل غير سائغ.
 
- فالتأويل السائغ: نضبطه بما كان داخل الشرع المؤول (ضمن اختلاف الفقهاء لكن يكون الخلاف فيه ضعيفا أو غير معتبر) وهذا النوع يقع فيه التبديل في الأسماء لا في الأحكام، وأشهر مسألة في ذلك (مسألة النبيذ) فالذين استحلوا شرب النبيذ مع كونه محرما بأدلة واضحة بينة (استحله فقهاء من اهل الحديث في الكوفة ومنهم أهل الرأي).
 
ومع ذلك لم يكفر السلف -رحمهم الله تعالى- مستحل النبيذ.
 
- لو رجعت لمستحل النبيذ رأيت أنه لم يبدل الحكم حيث أنه يبدل الاسم، كيف؟ يقول أن النبيذ ليس خمرا، فيبدل الاسم وحين يبدل الاسم يتغير الحكم (لان الاسم للمسمى والاسم يتبع حكمه والحكم يعلق بعلته الموجودة في اسمه) إذا قال أن النبيذ ليس خمرا فلا ينزل عليه أدلة الخمر.
 
- لذلك الاستحلال بالتأويل فيما هو تأويله سائغ في تبديل الأسماء لا الأحكام؛ ومثله كثير من المعاملات التي تجد فيها أدلة كثيرة ظاهرة على حرمتها (المعاملات الربوية) مثلا، فتجد البعض قد يجيزها بصور معينة، فالذي أجازها لا يدخل المعاملة في مسمى الربا ويقول هذا بيع، قال الله تعالى﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ۚ﴾ فيقع التبديل في الاسم ويسمي الربا بيعا.
 
والتأويل السائغ وضابطه يجب أن ننظر في أمرين:
 
-> المتأول يدين أن الله هو المشرع المحلل والمحرم.
 
-> يتأول الأثر -مهمة جدا-؛ نبه عنها الامام أحمد -رحمه الله- كما في مسائل الأثرم "كل من تأول شيئا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه أو عن أحدهم ويذهب إليه فلا بأس أن يصلى خلفه، وان قلنا نحن خلافه من وجه آخر لأنه قد تأول".
 
فالإمام احمد رحمه الله يتكلم عن درجة قبول التأويل من غيره.
 
”وهذا باب نرجع فيه للسلف ما قبلوا فيه التأويل نقبل فيه التأويل بلا وكس ولا شطط ولا زيادة ولا نقصان“
 
- أما التأويل الغير السائغ: فهو خلاف هذا ومثله تأويل القرامطة الباطنية للتكاليف الشرعية والأحكام وبه استحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله عزوجل وصاحبه كافر (كحال الاباحية الخرمية المزدكية والاسماعلية..) ومبناهم على الكلام (الفلسفة).
 
ب/- استحلال التنديد (التبديل): فهذا يقع فيه التبديل في الأحكام من حيث الأصل وسمي استحلال التنديد لأن المستحل فيه إما أن يجعل نفسه ندا لله -سبحانه- له حق التحليل والتحريم كما وقع من الأحبار والرهبان فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم استحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله.
 
وهذا وقع منهم لمنازعة رب العالمين فيما إختص به من الحاكمية والتشريع.
 
-> قال الله تعالى﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونََ﴾{التوبة|31}.
 
- وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الربوبية لم تكن بصرفهم الصلاة إليهم أو السجود لهم أو بالطواف بهم وإن كان وقع منهم شرك العبادة (اليهود والنصارى) لكن هنا جاءت ربوبية الطاعة كما في حديث عدي بن حاتم -رضي الله عنه-.
 
-> أخرج الطبري في تفسيره، عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقي صليبٌ من ذهب، فقال: يا عديّ، اطرح هذا الوثنَ من عنقك! قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في "سورة براءة"، فقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله)، قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه، ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم!
 
-> وأخرج عن الحسن: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا﴾، قال: في الطاعة.
 
-> وأخرج عن ابن عباس قوله: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّه﴾، يقول: زيَّنُوا لهم طاعتهم.
 
فعبادتهم جاءت بالموافقة على تبديل الأحكام.
 
- واستحلال التنديد يجعل المستحل فيه نفسه منازعا لربه ومبدلا لحكمه وهذا ما يقع في اصحاب التشريعات الوضعية التي تعطي حق التشريع للمخلوق وهذا هو حقيقة الطاغوت الذي يشرع من دون الله -عز وجل- ما هو مناقض لأحكام الله سبحانه.
 
-> قال الله تعالى﴿وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَٰهٌ مِّن دُونِهِ فَذَٰلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾{الأنبياء| 29}.
 
جاء في تفسيرها:
 
-> أخرج الطبري في تفسيره، عن ابن جُرَيج (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) قال: قال ابن جُرَيج: من يقل من الملائكة إني إله من دونه؛ فلم يقله إلا إبليس دعا إلى عبادة نفسه، فنـزلت هذه في إبليس.
 
-> وأخرج عن قَتادة (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَوإنما كانت هذه الآية خاصة لعدو الله إبليس لما قال ما قال، لعنه الله وجعله رجيما، فقال (فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).
 
-> وأخرج عن قَتادة (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) قال: هي خاصة لإبليس.
 
وهذان مناطان جعل الشيطان بهما طاغوتا، وذلك أنه دعى لعبادة نفسه من دون الله وأنه شرع الكفر -والعياذ بالله- وهي التبديلات التي شرعها واوحى بها إلى أولياءه.
 
-> قال الله تعالى﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾(الأنعام121).
 
وهذا في استحلال أكل الميتة.
 
جاء في تفسيرها:
 
-> أخرج الطبري في تفسيره، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: (وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم)، قال: إبليسُ الذي يوحي إلى مشركي قريش.
 
-> قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس: "يوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم".
 
->  قال ابن جريج, عن عبد الله بن كثير قال: سمعت أنَّ الشياطين يوحون إلى أهل الشرك، يأمرونهم أن يقولوا: ما الذي يموتُ، وما الذي تذبحون إلا سواء! يأمرونهم أن يخاصِمُوا بذلك محمدًا -صلى الله عليه وسلم- (وإن أطعمتموهم إنكم لمشركون)، قال: قولُ المشركين أمّا ما ذبح الله، للميتة، فلا تأكلون, وأمّا ما ذبحتم بأيديكم فحلال!
 
-> وأخرج عن ابن عباس قال: لما حرم الله الميتة، أمر الشيطان أولياءَه فقال لهم: ما قتل الله لكم، خيرٌ مما تذبحون أنتم بسكاكينكم! فقال الله: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه).
 
-> وجاء في صحيح مسلم ومسند أحمد، عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: "أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا؛ كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا..".
 
فالواقع أن الشياطين شرعت الكفر بتبديل أحكام الله عزوجل التي أنزلها في كتبه وقضى بها على ألسنت رسله -عليهم الصلاة وسلام-.
 
”فالمستحل بالتنديد يجعل نفسه منازعا لله فهذا طاغوت أو المستحل يتبع تشريع من جعل نفسه ندا لله يظهر الموافقة والخضوع والاحترام لتشريع غير الله سبحانه وهذا كافر بالله عزوجل، وهذا واقع في الأديان الوضعية في الدمقراطية والليبرالية والعلمانية“
 
▪ تنبيه: وضابط استحلال التنديد -التشريع من دون الله- ليس ضابطه الالزام كما يظن بعض الناس (يقول من ألزم بالمعصية فهذا تشريع مكفر هذا خطأ) فمثلا (المكوس والضرائب) نوع من الالزام؛ بَلْ أَحْكَامُ سِيَاسَةِ الْحُكَّامِ لا تصدر إلا بالالزام كذلك ليس ضابطه التعميم فالأحكام لا تكون من الحكام إلا معممة.
 
فهذا ضابطان ليس مطردان مع مسألة الاستحلال التنديدي ولكن المناط في التشريع المكفر هو تبديل الحكم في نفسه أن يأتي للحلال الذي أحل الله سبحانه فيجعله حراما سواء نسب المبدل إلى الله أو لم ينسبه ولو نسبه فهو زيادة في الكفر وإن لم ينسبه فهو كفر لأن فيه تبديل لأصل الحكم الشرعي فهذا هو الضابط سواء ألزم به أو لم يلزم سواء عممه أو لم يعمم، فنتبه لهذه المسألة
 
 
 وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين. 
 
 

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *