من أسباب وعلل ومناطات تكفير من لم يكفر "العاذر".
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاَةُ وَالسَّلَاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ، نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
• من أسباب وعلل ومناطات تكفير من لم يكفر من تلبس بكبار الكفريات الظاهرة المجمع عليها -وتنبه لقولنا كبار الكفريات الظاهرة- كالشرك "بعبادة القبور" ودعائها وإنكار "علو الله"، ويخرج ويستثنى من ذلك خفي المسائل ولا سيما للجاهل ضعيف الفهم لما جاء عن السلف إجماعا فيما نقله الرازيان في اللالكائي من عدم تكفير الجاهل بالوقف إلا بعد البيان؛ وهذا الاستثناء خاص بالجاهل وليس للمنسوبين للعلم ممن اطلعوا على الأدلة، وما جاء في السنة لعبد الله عن الإمام أحمد من عدم تكفير الجاهل الواقف واللفظي وهذا الاستثناء ليس للمنسوبين للعلم والكلام، ومسألة الوقف واللفظ خفية على العامة الجهال فاشترط البيان لهم قبل تكفيرهم بخلاف العالم وطالب العلم المتمكن، ويخرج من ذلك أيضا الأعيان المختلف في تكفيرهم كالخوارج فهذه خارجة تماما عن مسألة تكفير من لم يكفر "العاذر" لأمرين:
- الأول: لأن اختلاف السلف في تكفيرهم يجعل الخلاف سائغا.
- ثانيا: لعدم تضليل السلف بهذه المسألة بخلاف غيرها من المسائل التي بدعوا ولم يكفروا فيها:
> كتفضيل "علي" على "الشيخين" -رضي الله عنهم-.
> أو تلك المسائل التي نقل عنهم من أقوالهم وأفعالهم تكفير فاعلها أو المتوقف عن التكفير فيها، ويخرج من ذلك:
* عدم تكفير من تلبس بالكفر في حالة خارجة عن التكليف كالإكراه أو في حالة ذهول، كمن قال :"اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ" {صحيح مسلم}؛ أخطأ بقوله ذاهلا لشدة الفرح. ودليل العذر بالإكراه، قال الله تعالى﴿مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَان﴾{106| النحل}.
* ويخرج من ذلك من عذر من لم يتيقن أو لا يعلم وقوع الكفر منه، فمن حكم بإسلام من لم يعلم بحقيقة كفره كمن حكم بإسلام المنافق المستخفي بكفره.
• فهذا لا يكفر وقد اللتبس حال بعض المنافقين على بعض الصحابة واختلفوا فيهم، والمنافق له حالة خاصة وأحكام ينفرد بها عن غيره لما له من صفات وحالة يختلف بها عن غيره من المجاهرين بالكفر وهي كالتالي:
> يستخفون بكفرهم؛ قال الله تعالى﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾{التوبة| 101}.
> وما جاء من عدم معرفة الصحابة بهم ومن ذلك سؤال عمر لحذيفة -رضي الله عنهما- "هل أنا منهم"؟
> مبادرتهم بإظهار الإنكار والجحود لما نقل عنهم من كفر والحلف على ذلك وتبرئة أنفسهم مما نسب لهم من كفر؛ كما قال الله تعالى ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا﴾{التوبة74}.
> ما يظهرونه ويبادرورن به من الأعذار وإظهار التوبة والتراجع إذا ظهر منهم شيء كما حدث لمن تخلفوا عن تبوك بخلاف الصحابة المتخلفين عنها حين صدقوا فإنزل الله توبتهم.
> عدم التصريح بكفرهم بل ينتهجون التعريض؛ قال الله تعالى﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ﴾{30| محمد}، وكما حدث من خذلانهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- ورجوعهم بثلث الجيش، برروا ذلك وأظهروه في صورة التراجع لجزمهم بعدم حدوث القتال، قال الله تعالى قاصا لنا قولهم:﴿قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَّاتَّبَعْنَاكُمْ ۗۚ﴾{آل عمران| 167}.
> عدم تميزهم عن المسلمين باسم أو شعار أو وصف وعدم المجاهرة بكفرهم، كما يصنع غيرهم من أهل البدع الكفرية.
• ولذلك فالمنافق المستتر يرث ويورث ويدفن مع المسلمين، فلا يصح أن يقاس عليهم غيرهم ممن أعلنوا بدعهم الكفرية أو ردتهم فهؤلاء لا يرثون ولا يورثون، ولا يدفنون في مقابر المسلمين.
* ويخرج من ذلك أيضا ما حدث من "العباس بن عبد المطلب" و "سعد ابن عبادة" -رضي الله عنهما-، فيروى أن العباس لطم رجلا حين أخذته الحمية لطعنه في بعض آبائه.
• وهذه حمية طارئة في لحظة غضب وليس فيها عدم التكفير أو المناصرة بالقتال في صف الكفار فليس في الرواية أي دلالة على ما سبق.
- وكذلك حين أخذت الحمية "سعد بن عبادة" حين عرض بعض الأوس على رسول الله ﷺ أن يقتلوا "ابن أبي" رأس المنافقين، وهو من الخزرج فرأى "سعد ابن عبادة" وهو شيخ الخزرج أن في هذا افتئات عليه وتَعَدِ فأخذته حمية عارضة في لحظة غضب، فقال للأوسي: "والله لا تستطيع قتله"، وقالت عائشة -رضي الله عنها- عنه كما في البخاري : "رجل صالح أخذته الحمية".
• وليس في الرواية من قريب أو بعيد عدم تكفيره للمنافق وليس فيها أنه قاتل معه وناصره في حرب على المسلمين، بل غاية الأمر ما حدث من غضب وحمية عارضة وكلمة قيلت وسط مشاحنة وحمية وتجديد الشيطان لما بين القبيلتين من الحروب والثارات والعصبيات، ولذلك فالنبي ﷺ أسكت الجميع وهدأهم.
* ويخرج من ذلك من عذره السلف من العاذرية الذين لم يكفروا الأعيان المتلبسين بالقول "بخلق القرآن".
• فهؤلاء العوام العاذرية إن لم يتراجعوا يكفرون بعد البيان لهم، ومن عذره السلف من هؤلاء العوام لا بد أن يتحقق فيه شرطان:
ب/- أن يكون جاهلا ضعيف الفهم.
أ/- أن يكون هذا الجاهل ضعيف الفهم قد عذر في مثل مسألة من قال "بخلق القرآن" ونحوها من المسائل.
- وأما الجاهل الذي لا يكفر فيما هو أظهر وأوضح وأشنع وأغلظ منها من المكفرات فيما هو من المعلوم من الدين بالضرورة فلا عذر له هذا الجاهل بعدم تكفيره لأعيان هؤلاء، لماذا؟ لأمور منها:
1- لأنه لم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله ولاسيما جزء النفي منها.
2- لم يكفر بالطاغوت.
3- لم يحقق ملة إبراهيم في البراءة والتكفير لهؤلاء.
• وعلى ذلك فلا يعذر الجاهل ضعيف الفهم لو عذر ولم يكفر من "سب الله" وسخر منه بألفاظ صريحة غير محتملة وهو في حالة إدراك، ولا يعذر الجاهل إن عذر ولم يكفر اليهودي والنصراني والبوذي.
▪وهنا تنبيه هام جدا:
- النصوص والآثار جاءت بالعذر لبعض المكلفين (في بعض المسائل) من الجهال وممن لم تبلغهم النصوص ولم يرد نص أو أثر واحد يدل على عذر المنسوب للعلم إذا بلغته صريح الأدلة في كبار المسائل، وعلى ذلك فلا دليل ولا حجة على قول المرجئة الجهمية من أدعياء التوحيد والسنة بإعذار وعدم تكفير أعيان المنسوبين للعلم والحفظ ممن بلغتهم صريح النصوص في كبار وعظائم المسائل لعلة انتشار الجهل وبيئة الجهل!
وانتشار الجهل وبيئة الجهل (عذر للجهال حصرا وقصرا) وفي بعض المسائل دون بعض، وليس في انتشار الجهل وبيئة الجهل عذر للعالم الذي بلغته تفاصيل الأدلة، وما استدل به هؤلاء البلداء الأغبياء من المرجئة الجهمية من حديث "حذيفة" عليهم لا لهم لما جاء في نص الحديث أنهم لا يدرون ما صلاة ولا صياما ولا صدقة، فهؤلاء الجهال في زمن اندراس الإسلام لا يعلمون عن الصلاة وغيرها من الشرائع العملية شيئا، وهذا صريح كالشمس أنها لم تبلغهم النصوص والأدلة.
> أخرج ابن ماجه في سننه عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "يَدْرُسُ الْإِسْلَامُ كَمَا يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوْبِ، حَتَّى لَا يُدْرَى مَا صِيَامٌ، وَلَا صَلَاةٌ، وَلَا نُسُكٌ، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَيُسْرَى عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي لَيْلَةٍ، فَلَا يَبْقَى فِي الْأَرْضِ مِنْهُ آيَةٌ، وَتَبْقَى طَوَائِفُ مِنَ النَّاسِ ؛ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَالْعَجُوزُ يَقُولُونَ : أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَنَحْنُ نَقُولُهَا". فَقَالَ لَهُ صِلَةُ: مَا تُغْنِي عَنْهُمْ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ مَا صَلَاةٌ، وَلَا صِيَامٌ، وَلَا نُسُكٌ، وَلَا صَدَقَةٌ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يُعْرِضُ عَنْهُ حُذَيْفَةُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: يَا صِلَةُ، تُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ. ثَلَاثًا".
- فكيف يستدل بهذا على عذر وعدم تكفير عالم تلبس بكبار الكفريات كنفي العلو وقد بلغته تفاصيل مئات الأدلة؟!
• وعلى ذلك فمدار قيام الحجة على المكلف، ولا سيما في كبار المسائل على انتهاء العلم إليه ببلوغ النصوص له، والأدلة كثيرة:
> قال الله تعالى﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَٰذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ۚ ﴾{19| الأنعام}.
> قال الله تعالى﴿وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الْأَمْرِ ۖ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْۚ ﴾{17| الجاثية}.
- وقد نص السلف كالشافعي وغيره أن من انتهى له الخبر وبلغه فقد قامت عليه الحجة ولا عذر له، والتطبيق العملي السلوكي للسلف في تكفيرهم للأعيان (دون اشتراط البيان وإزالةالشبهة) شاهد بذلك، ولا سيما في كبار الكفريات.
• ومن قال بأن صريح الآيات والنصوص في كبار مسائل الدين والتوحيد ليست بحجة كافية لرفع الجهل وقطع العذر عن المكلف ولا سيما المنسوب للعلم فقد كفر وخرج من الملة.
- فإذا تقرر بأن بلوغ صريح النصوص في كبار مسائل الدين والتوحيد ترفع الجهل وتقطع العذر فلا عبرة ولا اعتداد بفشو وانتشار الجهل وعدمه في حكمنا على معين بلغته تفاصيل النصوص في كبار المسائل سواء كان في مجتمع وزمن علم أو في مجتمع وزمن جهل، والنصوص والآثار كثيرة في ذلك وليس هذا موضع بسطها.
> فكيف يعذر ولا يكفر -المرجئ الجهمي- ذاك العالم الذي بلغته مئات النصوص في علو الله لأجل جهل غيره من أهل بيئته وفشو الجهل فيهم؟!
* وكيف يعذر عالم بلغته صريح النصوص لأجل جهل أهل بلده وزمانه وفشو ذلك بينهم؟!
• وهؤلاء المرجئة الجهمية في قاعدتهم الغبية هذه يجعلون علة ومناط وسبب عدم تكفير المعين الذي (قامت عليه الحجة) هي قيام الحجة وبلوغها لغيره من أهل مجتمعه!
- عجبا لهذه الأفهام والعقول بعد أن تنكرت للنصوص والإجماع تنكرت حتى لبدهيات ومسلمات العقول، فالعالم في هذه المسائل يعذر ولا يكفر بعينه، لماذا يعذره ولا يكفره لأجل جهل قام بغيره، يعذره ولايكفره لأجل جهل تلبس به أهل بلده؟!
• انظر كيف أفسد الهوى والتقليد والتبعية عقول هؤلاء المرجئة الجهمية من أدعياء التوحيد والسنة من الحدادية والجامية وغيرهم.
▪ وتنبه -أيها السني- مما غرسه المرجئة الجهمية في العقول وألبسوه لبوس السنة والورع، وهو قولهم بأن النجاة والسلامة في ترك تكفير الأعيان حتى لو كانوا من العلماء المتلبسين بكبار الكفريات الذين بلغتهم صريح الأدلة! والرد باختصار:
- أولا: حين تنظر لفهم السلف ومنهجهم وآثارهم القولية والعملية التطبيقية وترى صريح إجماعهم تعلم تنكب هؤلاء المرجئة الجهمية لطريقة السلف ومنهاجهم، فالسلف لم يكتفوا بإيجاب التكفير للأعيان في هذه المسائل الكبرى بل كفروا من لم يكفر، تأمل الفرق والمباينة بين أدعياء السنة ممن ينهون عن تكفير الأعيان في كبار الكفريات ويسمون هذا الترك تورعا واحتياطا، والسلف على النقيض تماما كفروا من لم يكفر وأوجبوا التكفير حتى على العامي الجاهل في هذه المسائل الكبرى لأنهم حكموا بكفره إن لم يكفر بعد البيان له، وأما المنسوب للعلم فيكفر ابتداء قبل البيان له بالتفصيل الذي بيناه.
- ثانيا: هؤلاء المرجئة الجهمية يحذرون من التكفير وتوسعوا في ذلك حتى أوقعوا أتباعهم في إرجاء الجهمية، بينما ترى الصحابة والسلف على النقيض من ذلك وهذا "البخاري" يبوب عن من كفر متأولا ويورد ما جرى للصحابة في ذلك، ومن كفر معينا ظاهر عمله الكفر أو مظنة الكفر فهو معذور حتى لو أخطأ، وقول عمر لحاطب وبعضهم "لسعد ابن عبادة" -رضي الله عنهم-.
- ثالثا: إجماع السلف القولي والعملي التطبيقي في تعبدهم لله في تنزيل التكفير على الأعيان في هذه المكفرات الكبرى ولا سيما من نسب للعلم بعد بلوغ الأدلة، فابن عمر -رضي الله عنهما- تبرأ من القدرية وحكم بعدم قبول أعمالهم كما في مسلم والسنة لعبد الله والإبانة الكبرى وغيرها، وهذا تكفير صريح لهم وأحمد -رحمه الله- كفر "الكرابيسي"، وكفروا "المريسي" و"معبد" و"الجهم" بأعيانهم وآثار السلف في السنة لعبد الله والخلال واللالكائي في إعادة الصلاة خلف من علموا بعد صلاتهم أنه يقول "بخلق القرآن" وعدم موارثتهم والصلاة عليهم، وآثار تكفير السلف للأعيان أكثر من أن تحصر.
• فالنجاة والاحتياط لنفسك ودينك وخلاصها من الوقوع في كفر المرجئة الجهمية لا يتم إلا باتباع إجماع السلف بتكفير أعيان من تلبسوا بكبار الكفريات ولا سيما من بلغته الأدلة من المنسوبين للعلم، وإن أعرضت واتبعت أكثر المتأخرين كفرت وخرجت من الإسلام وهذا إجماع السلف فلا تهلك نفسك ودونك سبيل السلف فاسلكه.
- والآن -بإذن الله- سنشرع في بيان مختصر لجانب من جوانب مسألة تكفير من لم يكفر (عاذر) أعيان من تلبس بكبار الكفريات، وسنرجئ تفاصيل المسألة وبقية جوانبها لمقالة أخرى.
▪ من أسباب وعلل تكفير أعيان من لم يكفر (عاذر) من تلبس بكبار الكفريات "كعباد القبور" مثلا مايلي:
1/- تكذيبه لله ورسوله، فمن لم يكفر أعيان من أشرك بالله بعبادة القبور فقد كذب الله بتكذيبه للآيات التي تحكم بشرك وكفر من تلبس بالشرك، فالله يحكم عليهم بالشرك والكفر وهذا الجهمي لا يكفر أعيان عباد القبور من الجهال إلا بعد البيان وإزالة الشبهة، ولا فرق بين هؤلاء المتلبسين بالشرك سوآء انتسبوا للإسلام وادعوه وظنوا أنهم من أهله أو كانوا على ملة أخرى ينتسبون لها بدليل مخاطبة الله لنبيه وغيره من الأنبياء وهم أئمة المسلمين المؤمنين الموحدين؛
* قال الله تعالىٰ ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾{الزمر|65}.
- ومثل هذه الآية آية سورة الأنعام (88):
* قال الله تعالىٰ ﴿ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ {الأنعام|88}.
• والآيات صريحة أن مجرد فعل الشرك الأكبر من (المكلف المدرك) يصيره ويجعله كافرا مشركا بالله حابط العمل، وقد حكم الله بكفر وشرك الجهال ممن تلبسوا بالشرك حتى قبل بلوغ القرآن كما في الآية الأولى من سورة البينة والآية السادسة من سورة التوبة:
* قال الله تعالىٰ ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ﴾{البينة|1}.
* قال الله تعالىٰ ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُون﴾{التوبة|6}.
2/- يكفر من لم يكفر (عاذر) الأعيان ممن تلبسوا بهذه الكفريات الكبرى المعلومة من الدين بالضرورة، بسبب رده لأمر من أمور الشريعة وحكم من أحكامها ونصا من نصوصها، وقد جاء في "التمهيد" لابن عبد البر نقل إسحاق بن راهوية الإجماع على كفر من رد أمرا من أمور الشريعة؛
> قال إسحاق بن راهوية: "أجمع المسلمون على أن من سب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم أو دفع شيئا مما أنزل الله عز وجل أو قتل نبيا من أنبياء الله عز وجل أنه كافر بذلك وإن كان مقرّاً بكل ما أنزل الله".
3/- من لم يكفر هؤلاء لم يكفر بالطاغوت الذي شرطه الله كما في سورة البقرة؛
* قال الله تعالى﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا﴾{البقرة|256}.
- والكفر بالطاغوت لا يتحقق إلا بتكفير أتباع الطاغوت والبراءة منهم وهذه حقيقة ملة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام؛
* كما قال الله تعالى﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾{الممتحنة|04}.
• وتأمل الآية حيث بدأ بالبراءة من أعيانهم قبل البرآءة من كفرهم لأن البرآءة من الأعيان متضمنة البرآءة من كفرهم، وهذا أبلغ في الدلالة في هذا الموضع.
4/- يكفر العاذر في هذه المسائل بالإجماع وقد نقل الإجماع ستة من المتقدمين أبوزرعة وأبو حاتم الرازيان وحرب الكرماني واللالكائي وابن بطة العكبري والملطي.
- والإجماع جاء علي تكفير من لم يكفر من قال "بخلق القرآن"، وكفر "المشرك" العابد لغير الله من القبور وغيرها أشنع وأغلظ وأظهر وأوضح من كفر القول "بخلق القرآن" فتكفير عاذره من باب أولى، وكفر اليهودي والنصراني والبوذي أشنع وأغلظ وأظهر وأوضح من كفر القائل "بخلق القرآن" فتكفير عاذره من باب أولى.
• وبعد ذلك كيف يمكن لبليد غبي جاهل من هؤلاء المرجئة الجهمية أن يقول بتكفير عاذر من يقول "بخلق القرآن" ولا يقول بتكفير عاذر البوذي واليهودي والنصراني بدعوى عدم ورود إجماع يخص مثل عاذر البوذي والسيخي بالذكر والتنصيص!
▪ ومسألة كفر من لم يثبت "علو الله" وفوقيته وارتفاعه أشنع وأغلظ وأظهر وأوضح من كفر القول "بخلق القرآن" لأربعة أسباب كما يلي:
أ/- لأن علو الله وفوقيته وارتفاعه من أصل معرفة الله والإيمان به التي لا يصح إسلام أحد إلا بها كما جاء النص بذلك صريحا في حديث الجارية بمسلم (537)، حيث اشترط وعلق الحكم بإسلامها وإيمانها بالله بمعرفتها أين الإلاه المستحق للعبادة دون سواه وأنه عال مرتفع فوق خلقه؛
> عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ، قَالَ: «...وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي..قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: "ائْتِنِي بِهَا"، فَأَتَيْتُهُ بِهَا. فَقَالَ لَهَا: "أَيْنَ اللَّهُ؟" قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: "مَنْ أَنَا؟" قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: "أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ"..». أي: "مؤمنة بالله".
• وهذه من أصول وأساسيات الإيمان بالله ومعرفته، فمن لا يعرف "أين ربه" فليس بمسلم إلا لدى من أعمى الله بصيرته من المرجئة الجهمية العاذرية.
ب/- والإيمان بالله ومعرفته مقدم في أركان الإيمان على ما سواه ذكرا وتعليما ومعرفة والتعليم لعقيدة الإيمان بالكتب يأتي لاحقا بعد ذلك ولا يتحقق إيمان العبد بالركن الأول من أركان الإيمان "الإيمان بالله"، إلا بحقيقة معرفة العبد لربه ومن أبرز ذلك أن يعرف العبد أين ربه الذي يعبده.
• ومما يبين أن كفر عدم إثبات "العلو" أشنع وأغلظ وأظهر وأوضح من كفر القول "بخلق القرآن" أيضا مايلي:
ج/- أن علو الله وفوقيته وارتفاعه على خلقه من مسائل التوحيد التي أقام الله فيها حجته على خلقه بعدة أمور أولها ما أودعه الله في الفطر والعقول كمعرفة أن الله هو الخالق المدبر لهذا الكون وأنه فوق خلقه مرتفع عليهم.
• وهذا بخلاف مسألة معرفة أن الله أنزل على رسله كتبا (كالقرآن والتوراة والإنجيل) وأنها من "كلامه"، فإنزال الكتب ومعرفتها لاتدرك ولا تعرف إلا بالخبر فقط ولا تعلم بالفطرة والعقول لأنها ليست مما أودعه الله في الفطر والعقول.
- ولذلك لو سألت طفلا عمره ثلاث أو أربع سنوات "أين الله؟"، لأشار للسماء لما أودعه الله في فطرته وعقله أن الله فوق خلقه وسماواته.
د/- أقام الله الحجة على عباده بشأن علوه وفوقيته بأكثر من ألف دليل ونص زيادة ورديفا على ما أودعه الله في فطرهم وعقولهم، بينما أدلة إثبات أن الله أنزل القرآن على نبيه وأنه من كلام الله لا تبلغ معشار ذلك.
• وهذه الأسباب الأربعة صريحة جلية بأن "علو الله" وارتفاعه وفوقيته أظهر وأوضح من كون ما أنزله الله من القرآن من كلام الله.
- وعلى ذلك فتكفير من لم يكفر (عاذر) من لم يثبت "علو الله" أظهر وأوضح وأولى من تكفير عاذر من قال "بخلق القرآن"، وهذا من باب أولى، وكذلك كفر "الساب لله" المستهزئ به بصريح العبارة أشنع وأغلظ و أظهر وأوضح من كفر القائل "بخلق القرآن".
• فإذا علمت ذلك فتكفر من عذر ولم يكفر "ساب الله" أولى من تكفير من عذر ولم يكفر من "قال القرآن" مخلوق.
- ولذلك فالصحابة كفروا أعيان القدرية كما جاء عن "ابن عمر" -رضي الله عنهما- في صحيح مسلم، حين تبرأ منهم وحلف بالله بعدم قبول أعمالهم ومَثَّلَ بالصدقة،
• عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ، فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ،..
- فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ. قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي،..».
▪ والصحابة لم يترددوا في تكفير أعيان من أشرك في النبوة من "أتباع مسيلمة" مع أنهم قد جمعوا كل هذه الصفات التي يجعلها الجهمية أعذارا وموانع من التكفير في كبار الكفريات، وتأمل في صفات من كفرهم الصحابة بأعيانهم:
1- الجهل والأمية لأن الاصل في العرب آنذاك الأمية.
2- بيئتهم "بيئة جهل" قد تفشى فيهم الجهل لعدم انتشار العلماء بينهم ولعدم امتلاكهم لمصاحف ولانتشار الأمية بينهم ولتضليلهم بشهادة الزور التي قالها "الرجال بن عنفوة" -لعنه الله-، والصحابة -رضي الله عنهم- لم يعتدوا بجهلهم ولا بتفشي الجهل بينهم لأن ختم النبوة بمحمد ﷺ من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام.
• والجهل وتفشيه مما يعده (الحدادية والجامية وغيرهم من الجهمية) من موانع تكفير الأعيان.
3- لا يملكون مصحفا واحدا لعدم جمع المصحف آنذاك.
4- عمر إسلامهم لا يتجاوز "الأربع سنوات" فقط فعهدهم بالجاهلية قريب.
5- يروى أن بعضهم اعتمدوا واستندوا في كفرهم على حديث موضوع مكذوب شهد به الكذاب المرتد "الرجال بن عنفوة" بأن "مسيلمة" الكذاب قد أشرك في النبوة.
6- وبعد تلبيسات "مسيلمة" الكذاب -لعنه الله- بالسحر والكهانة التي كان يضلل بها الناس وبعد شهادة الزور التي ادعاها "الرجال بن عنفوة" -لعنه الله-:
> ظن بعضهم أنه على حق في اعتقاد إشراك مسيلمة الكذاب في النبوة.
> ووقعوا في الكفر، ولم يتعمدوا الوقوع في الكفر.
> ولم يقصدوا الردة وترك الإسلام.
> ووقع لبعضهم بذلك اللبس والشبهة والتأول.
7- بعضهم قلدوا واتبعوا أعلمهم بالكتاب والسنة "الرجال بن عنفوة" وأكثرهم ملازمة ومكوثا في المدينة عند رسول الله ﷺ، فحصل لهم بذلك وتحقق فيهم "التقليد"، ومع كل ما تحقق فيهم من تلك الأمور التي يسميها المرجئة الجهمية موانع تكفير المعين في (كبار الكفريات) حتى لمن بلغتهم صريح النصوص لم يعذرهم الصحابة -رضي الله عنهم- بل كفروا جميع أعيانهم وشهدوا على قتلاهم بالنار، والسلف كانوا ينزلون التكفير على أعيان من تلبسوا بكبار الكفريات ولا سيما من ينسب للعلم والكلام ولم يعرف السلف قاعدة النوع والعين التي ابتدعها المرجئة الجهمية من أدعياء السنة حتى في كبار الكفريات بعد بلوغ النصوص.
• وبعد ذلك نسأل المرجئة الجهمية من الحدادية والمدخلية وغيرهم:
* هل الصحابة والسلف فيهم تسرع في التكفير؟!
* وهل فيهم نزعة غلو خارجية؟!
* وما قولكم في "أحمد بن حنبل" -رحمه الله- حين ضلل رجلا لمجرد أنه صلى على "ابن أبي دؤاد"؟!
* وهل كان أحمد -رحمه الله- خارجيا مارقا حين "طعن" في المأمون والواثق -لعنهما الله-"ودعا عليهما"؟!
* وهل كان "خارجيا" حين لم يعتد بولاية وسلطان "الواثق"؟!
* وهل كان "خارجيا" حين أثنى على "ابن نوح" ودعا له؟!
• قبح الله الجهل والإرجاء التجهم، والبعض مهما ذكرت له من الأدلة والإجماعات لا يقتنع ولا يرعوي عن بدعته حتى يسمع ذلك من "شيخه" فياخيبة المسعى، نسأل الله السلامة والعافية.
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين.