تَوْضِيحُ وَتَوْجِيهُ كَلاَمِ الّلاَلكَائِي فِي إطْلاقِهِ بِأَنّ أََدِلَّةَ التّوْحِيدِ وَالشّرَائعِ بالسَّمَاعِ وَالخَبَرِ لاَ "الفِطَرِ وَالعُقُولِ"
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاَةُ وَالسَّلَاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ، نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
- ما أودعه الله في الفطر والعقول من أصول معرفته ودينه وتوحيده ليس خاصا (بالاحتجاج على العباد وقطع عذرهم فقط دون الاستدلال والتلقي الذي قيل بأنه خاص بمسائل السمع والخبر!) كما فُهِمَ من قول "اللالكائي"!
• وهذا مجانب للصواب بل ما أودعه الله في الفطر والعقول أيضا يتلقى ويستدل به وهو متلقى بطبيعة الحال وهو حجة على الخلق قاطع لعذرهم، فأدلة الفطرة والسمع لا فرق بينها في هذين الجانبين وحصر التلقي والاستدلال بأدلة السمع والخبر مخالف لصريح النصوص وفهم السلف وتطبيقهم ومنهاجهم.
- وعلى ذلك فالتوجيه والتفسير الصحيح لقول "اللالكائي" (بأن مسائل التوحيد والدين تدرك بالخبر والسماع وليس بالعقل) ليس معناه أن التلقي والاستدلال خاص بأدلة السمع والخبر بل توجيهه الصحيح أنه إطلاق باعتبار الأصل والغالب، لأن الأصل والغالب الشائع في كل مسائل التوحيد وعموم الشريعة أنها لا تدرك وتعلم إلا بالخبر والسمع باستثناء بضعة أصول في معرفة الله وتوحيده ودينه قد أقام الله الحجة عليها بأمرين:
- الأول: بما أودعه الله في الفطر والعقول.
- الثاني: بما أقامه الله عليها من التأكيد بأدلة الخبر والسماع من نصوص الوحي.
▪ وعلى ذلك فتفسير وتوضيح معنى ما أطلقه وعممه اللالكائي كالتالي:
1)- الإطلاق والتعميم يصح شرعا وعرفا ولغة وعقلا حتى مع وجود (المستثنى الطارئ أو القليل النادر) والأدلة على ذلك كثيرة منها:
> إطلاق حديث "إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ،..".
> وحديث إطلاق تحريم "نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ"؛ مع ما يروى من اسثناء الضبع في روايات أخرى.
> وكإطلاق الأمر بأداء الزكاة؛ مع أن من الأموال الزكوية مالا يزكى كأموال ما حبس وأوقف في سبيل الله.
• وعلى ذلك فهذا الإطلاق "للالكائي" هو باعتبار الأصل الغالب والأكثر الشائع، وهذا لا ينافي أن هناك بضعة من أصول الدين والتوحيد هي مما أودعه الله في الفطر والعقول فهي تعرف وتدرك بذلك وبالنص والخبر أيضا (كمعرفة الله وأنه الإله الحق الخالق المدبر لهذا الكون وأنه مرتفع عال فوق خلقه وأنه المستحق للعبادة دون سواه وأن عبادة غيره ضلالة وأن من عبد غير الله ضال على غير الهدى).
▪ والأدلة على أن هناك أصولا للدين والتوحيد وأصولا في معرفة الله قد أودعها الله في فطر خلقه وعقولهم مردها لما يلي:
أ)- لنصوص وأحاديث ومرويات أخذ الله جل وعلا الميثاق على عباده وأنه قد عرف عباده بنفسه تعريفا عاما تأصيليا حين ذاك:
> قال الله تعالى﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ۞ أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُون ۞ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون﴾{الأعراف |174- 173- 172}.
• جاء في تفسيرها:
- أخرج ابن أبي حاتم في تفسيره، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ يَعْنِي عَرَفَةَ، فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَاهَا فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ ثُمَّ كَلَّمَهُمْ: "أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ"، وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ نَحْوُ ذَلِكَ..
- و عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَمَعَهُ لَهُ يَوْمَئِذٍ جَمِيعًا مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَهُمْ أَزْوَاجًا ثُمَّ صَوَّرَهُمْ، ثُمَّ اسْتَنْطَقَهُمْ وَتَكَلَّمُوا، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ "وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ".
قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُ عَلَيْكُمُ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ، وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ، وَأُشْهِدُ عَلَيْكُمْ أَبَاكُمْ آدَمَ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ نَعْلَمْ بِهَذَا، اعْلَمُوا أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرِي وَلا رَبَّ غَيْرِي، وَلا تُشْرِكُوا بِي شَيْئًا، وأَنِّي سَأُرْسِلُ لَكُمْ رُسُلاً يُنْذِرُونَكُمْ عَهْدِي وَمِيثَاقِي، وَأُنْزِلُ عَلَيْكُمْ كُتُبِي قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ رَبُّنَا وَإِلَهُنَا لَا رَبَّ لَنَا غَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ لَنَا غَيْرُكَ فَأَقَرُّوا لَهُ يَوْمَئِذٍ بِالطَّاعَةِ،..".
- أخرج ابن أبي عاصم في السنة، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ عُمَرَ، سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: "وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ"[الأعراف: 172] فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسْأَلُ عَنْهَا فَقَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّتَهُ، فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ ذُرِّيَّتَهُ فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ ".
فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَفِيمَ الْعَمَلُ؟ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلَ النَّارَ».
•> وارجع لأحاديث أخذ الميثاق في ابن أبي عاصم وغيره.
•> وارجع لشروح تلك الروايات في شروح كتب الحديث وكتب الاعتقاد.
•> وارجع لأدلة مسألة التحسين والتقبيح.
ب)- ما جاء من تكفير المشركين قبل بلوغ الخبر والسماع في عدة نصوص منها:
* قال الله تعالى﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ﴾{التوبة |6}.
* قال الله تعالى﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةَُ﴾{البينة |1}
ج)- ما جاء من محاجة الله من أشرك وتذكيرهم بما أودعه في فطرهم وعقولهم من ذلك الميثاق، والضال يستدل و يحتج عليه بما أودعه الله في فطرته وعقله.
- والدليل على أن ذلك من التلقي الذي يستدل به ويحتج به خلافا للمرجئة الجهمية العاذرية من أدعياء السنة:
-> ما احتج الله به على المشركين وتقريعهم به في كثير من الآيات من معرفة الخالق والمالك المدبر ومعرفة التوحيد ولزومه.
-> ما احتج واستدل به "ابراهيم" و "موسى" على نبينا وعليهما -الصلاة والسلام- على "النمرود" و"فرعون".
• ولو سلمنا جدلا بأن مراد "اللالكائي" كل مسائل التوحيد مردها للسمع والخبر وليس معظمها وأكثريتها وغالبها كما يزعم بعض المرجئة الجهمية من أدعياء السنة ليبطلوا تكفير أعيان الجهال من مشركي القبور.
▪ أقول؛ لو سلمنا جدلا أن مراد "اللالكائي" التعميم دون استثناء فنرد على ذلك قائلين:
1/- هذا مردود بالكتاب والسنة وكلام الأئمة، ولا قول لأحد مع النصوص وفهم السلف لها.
2- لا نرد ما جاءت به صريح النصوص لأجل مشابهة بعض كلام ضلال المتكلمين بذلك مع أن حقيقة كلام هؤلاء الجهمية (المتكلمين) لا يتوافق ولا يتطابق من كل وجه مع ما قلناه مما جاءت به النصوص وقال به الأئمة، وكون بعض المتكلمين وافق بعض مدلولات النصوص ضمن تفاصيل تأصيل بدعي له فلا يترك الحق لموافقة أو مخالفة هؤلاء الزنادقة.
3- لو سلمنا جدلا بهذا التفسير البدعي الزاعم إطلاق وعدم تقييد كلام "اللالكائي" ودعوى أن هذا مراده، قلنا ليس كلامه بأولى من كلام من هو أعلم منه وأعلى طبقة "كالإمام الدارمي" وهو مندرج في القرون المفضلة لعدة أسباب:
أ/- القول بإدراج "الجيل الرابع" في القرون المفضلة المنصوص عليها كطبقة الإمام أحمد والدارمي -رحمهما الله- لما جاء من ذكرهم وإدراجهم في رواية مسلم المحتملة والتي شك فيها الراوي بإدراجهم.
ب/- وأيضا فقد درج أهل السنة بإلحاق الأئمة المجمع عليهم من هذا الجيل الرابع بالسلف (القرون الثلاثة المفضلة) من جهة الاحتجاج بفهمهم والاستشهاد به والرجوع له، وقرنها بأقوال القرون الثلاثة وإدراجها ضمنهم من جهة الاحتجاج بالفهم والتفسير لنصوص الشريعة.
ج/- هذا الجيل هم تلامذة الجيل الأخير من السلف (أتباع التابعين) وهم نقلة علمهم وفهمهم للنصوص والشريعة وهم وارثوا علم السلف وفهمهم وهم حلقة الوصل المجمع عليهم بين الأمة بأجيالها والقرون المفضلة.
- والمقصود بأن كلام اللالكائي ليس بأولى من قول الإمام الدارمي حين قال: "إن تكفير الجهمية وانحراف وضلال قولهم معقول".
• أي، مدرك بما أودعه الله في الفطر والعقول.
- وكذلك قد قال محمد بن نصر المروزي وهو دون طبقة "الدارمي" وفوق طبقة "اللالكائي"، قال: "الجهل بالله كفر قبل الخبر وبعده".
• والمقصود الجهل ببعض أصول معرفة الله التي جهلها وأنكرها "الجهمية".
- وكلام "الدارمي" و"المروزي" صريح بالاعتبار والاحتجاج بحجة (ما أودعه الله في الفطر والعقول من معرفة الله) التي يعرفها الخلق بعد أخذ الميثاق عليهم.
• وكلامنا هنا على سبيل التسليم والتنزل مع الخصم وإلا فالاستدلال والاحتجاج (بما أودعه الله في الفطر والعقول من أصول معرفة الله) لا يجهلها "طلاب العلم".
* فكيف يدعى جهل "الإمام اللالكائي" بذلك ويزعم عدم معرفته وعدم إقراره بذلك؟!
د/- في كلام الإمامين يزيد بن هارون والقعنبي -رحمهما الله- وهما من (القرون الثلاثة المفضلة) ما يشير للاحتجاج والاستشهاد بما أودعه الله في الفطر والعقول وترتيبهما التكفير للجهمية من 'نفاة العلو' بذلك حيث قالا: "من قال في استواء الله وعلوه بغير ما يقر في قلوب العامة فهو جهمي".
-> قال عبد الله بن أحمد في السنة (1110): حَدَّثَنِي عَبَّاسٌ، نا شَاذُّ بْنُ يَحْيَى، قَالَ: سَمِعْتُ يَزِيدَ بْنَ هَارُونَ وَقِيلَ لَهُ: "مَنِ الْجَهْمِيَّةُ؟ قَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الرَّحْمَنَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى عَلَى خِلَافِ مَا تَقَرَّرَ فِي قُلُوبِ الْعَامَّةِ، فَهُوَ جَهْمِيٌّ ".
• والعامة هنا أي عامة المسلمين ممن نسميهم بالعوام (وليس العلماء والخاصة) ممن بقوا على أصل الفطرة.
- والأصل الغالب في عوام المسلمين حينذاك البقاء والثبات على الفطرة وما أودعه الله في العقول والفطر دون تلويث أو تحريف لما أودعه الله في الفطر والعقول من أصول معرفته ومنها علوه وفوقيته وارتفاعه حيث لم تتلوث فطرهم بفلسفة وزندقة وتكلفات أهل الأهواء والكلام، وتسميتهم ووصفهم بالجهمية في قول الإمامين تصريح بتكفيرهم لأن إجماع السلف والأئمة منعقد على تكفير الجهمية كما نقله الآجري والملطي والدارمي والسجزي وغيرهم.
▪ وللفائدة فقد حرف "الذهبي" (المرجئ الجهمي العاذري) قولهما بتفسيره البعيد البليد حين قال: " أي ما يستقر في قلوب العلماء" ففسر العامة "بالعلماء"، وهذا تحريف وجهل من هذا الجهمي لعدة أسباب:
1- لأن أهل العلم لا يعبر عنهم بوصف العامة المجرد بل لم يرد وصفهم بذلك البتة إلا معطوفا مفسرا بالعلماء، فيقال: "عامة أهل العلم" أو يذكر العلماء نصا ثم يقال في السياق عامتهم؛ أي: عامة العلماء على كذا وكذا.
2- لم يرد في تاريخ الأمة من عصر الصحابة -رضي الله عنهم- إلى يومنا هذا نسبة علم وتفسير وقول واعتقاد "للعلماء" بإرجاعه ونسبته لما في قلوبهم!، بل لم يرد في نقل قول وعلم وتفسير واعتقاد المنسوبين للعلماء إلا بنسبته لقولهم وإذا جاء وصف اعتقاد العلماء فهو صريح بالسياقات والنقول عنهم بأن المراد الاعتقادات المكتوبة والمروية والمنقولة عنهم، ولم يرد وصف ونسبة اعتقاد (المنسوبين للعلم وما يرونه ويرجحونه) لما في "قلوبهم" مما لم يصرحوا به و يكتبوه ويقولوه.
* وهل سمعتم بأحد يحتج ويستدل بما في قلوب العلماء؟!
• بل الاحتجاج بنقولهم أوتفاسيرهم وفهمهم.
3- السياق ظاهر بأن الإمامين قد احتجا على الجهمية من 'نفاة العلو' بالأصل (الثابت الذي لم يلوث ويحرف) لما أودعه الله في فطر وعقول وقلوب العامة الذين بقوا على الأصل ولم تتلوث فطرهم.
• وهذا أبلغ في الاحتجاج عليهم وبيان ظهور ووضوح كفرهم، لأن الجهمية خالفوا ما أقام الله الحجة والدليل عليه بما في الفطر والعقول قبل الخبر ودليل السمع، وأن ما أنكره الجهمية ونفوه مدرك معلوم ظاهر بَيِّنٌ جلي حتى للجاهل العامي بما أودع الله في فطرته وعقله وقلبه من علوه وفوقيته -جل جلاله- ولأجل ذلك فهم كفار جهمية.
4- لو كان مراد الإمامين الاحتجاج على ظهور ووضوح كفرهم بما يراه ويعتقده العلماء لقالا إن النفاة للعلو "جهمية"، لمخالفة "الجهمية" لما أجمع عليه العلماء لأن الإجماع لا يقوم إلا على النصوص ولا سيما في (كبريات المسائل) البينة الجلية ولو كان هذا المراد لقالا عن من لم يثبت العلو هو "جهمي" لمخالفته للكتاب والسنة والإجماع.
• و"الذهبي" لتجهمه لا يكفر أعيان "نفاة العلو" حتى لو بين لأحدهم كما جاء في ترجمة "ابن خزيمة" في سير النبلاء، وقد أطلق ذلك دون تقييد سواء من المنسوبين للعلم أوغيرهم والأصل أنه لا يخوض في "نفي العلو" إلا من ينسب للعلم والكلام بخلاف غالب الجهال من العامة و من لم يثبت ارتفاع الله وفوقيته وعلوه على خلقه فهو كافر قبل الخبر وبعده سواء من العلماء أوالعامة الجهال لأنه لم يعرف ربه والجاهل بربه في مثل هذا كافر وهذا من أصول معرفة الله التي أودعها الله فطر وعقول خلقه، "فمن لا يعرف أين ربه فهو كافر".
• وحقيقة معرفة واعتقاد علو الله وفوقيته كالتالي:
-> أنها من أصل معرفة الله وأصل معنى الإيمان بالله.
-> ومعرفة ذلك أيضا مما أودعه الله في الفطر والعقول.
-> ومعرفة ذلك أيضا شرط للحكم بإسلام المكلف وشرط للحكم بصحة إيمانه بالله وشرط للحكم بصحة معرفة العبد بربه.
▪ وأدلة كل هذه الأصول والشروط المتعلقة بحقيقة مسألة العلو وإثباتها كثيرة منها:
1/- حديث الجارية في مسلم:
•> أخرج مسلم في صحيحه، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: "ائْتِنِي بِهَا"، فَأَتَيْتُهُ بِهَا. فَقَالَ لَهَا: "أَيْنَ اللَّهُ؟" قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: " مَنْ أَنَا؟" قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: "أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ".
2/- وحديث والد عمران "حصين" -رضي الله عنهما-:
•> أخرج الترمذي في سننه، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي: "يَا حُصَيْنُ، كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ إِلَهًا؟" قَالَ أَبِي: سَبْعَةً؛ سِتَّةً فِي الْأَرْضِ، وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ. قَالَ: "فَأَيُّهُمْ تَعُدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ؟". قَالَ: الَّذِي فِي السَّمَاءِ،..".
3/- وأيضا ما يجده الخلق في قلوبهم من معرفة "علو الله" وارتفاعه وفوقيته حتى أن طفل الثالثة والرابعة يدرك ذلك بخلاف زنادقة الجهمية من "أشاعرة" وغيرهم سبحانه وتعالى عما يقول الجهمية علوا كبيرا.
- ومسألة "التحسين والتقبيح" التي لها صلة بهذه المسألة قد اضطرب فيها قول الجهمي شيخ العاذرية "ابن تيمية" فليس كل إطلاقاته فيها يصح كما يدعي الجهمية من أدعياء السنة مع أن بعض كلامه في المسألة قد أصاب فيه.
-> ومثال ذلك "العدل" فهناك من "العدل" مالا يدرك إلا بالشرع مع أن أصوله مدرك بالعقل والشرع معا (كالعدل في مساواة الإخوة لأم بخلاف التفريق في الإخوة الأشقاء والإخوة لأب)، قال الله تعالى﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ ۚ﴾.
• وأما جانب (المؤاخذة والعقوبة) في التحسين والتقبيح فقد تجهم "ابن تيمية" في هذه المسألة في الجانب التنظيري والعملي التطبيقي أيضا حيث أقام العذر وعدم المؤاخذة لأعيان من قامت عليه حجة الفطرة والعقل والسمع والخبر.
- وهنا فائدة عن "السجزي" الذي ذكر خلال هذه المقالة:
- السجزي ليس من قرون "أجيال" السلف الثلاثة أو الأربعة التي جاء تفضيلها بالنصوص بل هو في طبقة متأخرة ورسالته لأهل زبيد عن "الحرف والصوت" فيها فوائد.
• ومن كان في عصر السلف القرون الثلاثة من المنسوبين للعلم وتلبس بكبار الكفريات (أو شك مجرد شك) في كفر الجهمية الخلقية فقد كفره السلف إجماعا، وليس زمانه بمغن عنه بل زيادة في الحجة عليه.
- السجزي قد قال في كتابه "الحرف والصوت" (كفر وتجهم الشاكة العاذرية)، وَنُقِلَ عنه أيضا بدعة اللفظية الثانية وهي قول (لفظي بالقرآن غير مخلوق) وهذه ليست كفرية كاللفظية الأولى وهي قول لفظي بالقرآن مخلوق.
• فقد جمع بدعتين الأولى مكفرة وهي الأشنع والأغلظ والثانية مفسقة وهي دون تلك، وهو "عالم" فلا عذر له والسجزي ليس من العاذرية الجهال ضعيفي الفهم والإدراك ممن عذرهم السلف واشترطوا البيان قبل تكفيرهم.
- والسجزي ليس بأعلم ولا أخير من "أبي ثور" حين جُهم وَكُفر قبل رجوعه وتوبته لأجل بدعة 'اللفظ' وهي أشد لبسا من كفر العاذرية وليس بأعلم من "علي بن الجهم" ولا "ابن علية" قبل توبته ولا "الحلواني" وغيرهم وغيرهم من أهل العلم المتلبسين بالكفريات وهم أعلم وأعلى طبقة من (السجزي العاذري).
• والمقصود بيان كيف وقع "السجزي" في كفر العاذرية:
أ/- وقع في كفر العاذرية بدعواه الخلاف في المسألة مع أن مثله لا يخفى عليه هذه المسألة المشهورة المستفيضة المذاعة المتناقلة شفاها وكتابة، وهي في جميع كتب السنة الكبرى المتداولة بين أهل السنة وهذه الكتب قد نقلت إجماع السلف على كفر الجهمية ولا يوجد فيها ذكر هذا الخلاف المزعوم.
• وكفر من قال "بخلق القرآن" ظاهر بين لا يقتصر على بلوغ الإجماع، ولا عذر لمن اغتر بأقوال بعض المعاصرين وذكر الخلاف (حتى مع الترجيح) دون بيان "ضلال وكفر" أحدهما وكأنه يتناول مسألة فقهية فرعية سائغة.
- تهوين للمسألة وتسويغ لكلا القولين وتسويغ "الخلاف" ونسبته لأهل السنة وحكمه بأن (من لم يكفر) لا زال سنيا من أهل السنة وليس كافرا لأن القول "بخلق القرآن" ليس من الكفر الأكبر المجزوم به وحقيقة ذلك التردد والشك وعدم الجزم بالتكفير وتجويز التكفير وعدم التكفير.
• وهذا عين وحقيقة الشك والتردد في التكفير (وهذا كفر بالإجماع)، لأنه ذكر أن أهل السنة لم يجمعوا على تكفيره بالكفر الأكبر ونسب الجهمية العاذرية الكفار لأهل السنة ممن جزموا بإسلام وعدم كفر من قال "بخلق القرآن" وقالوا بأن كفر الجهمية الخلقية (كفر أصغر) وأيضا رد الإجماع في هذه المسائل الكبرى المستفيضة كفر مخرج من الملة وقد قال البغدادي الجهمي: "بأن مراتب الإجماع كمراتب النصوص" والتكفير مترتب على ذلك الظاهر المعلوم المشهور وهذه مسألة مشهورة معلومة.
ب/- العاذر العالم لم يستثن كالعاذر الجاهل الذي لا يفهم، وناقض صريح إجماع السلف القولي التنظيري وكذلك العملي التطبيقي الدال صراحة على أن كفر الجهمية الخلقية وغيرهم من الكفر الأكبر المخرج من الملة وادعى أن هناك من أهل السنة من قال بأن كفر القائل "بخلق القرآن" كفر أصغر!، مع أن تكفير السلف صريح بأنه من الأكبر بدلالة التالي:
1- حكم السلف والأئمة ببطلان أنكحتهم.
2- الحكم بعدم الصلاة خلفهم وعدم صحتها الصلاة خلفهم وإعادة صلاة من صلى خلفهم ومن صلى فاليعد صلاته.
3- عدم موارثتهم.
4- مساواة السلف لهم باليهود والنصارى كما جاء عن "ابن عياش" وغيره وتشبيههم بعباد الأصنام.
5- سموهم زنادقة.
6- تكذيبهم للنصوص الواردة بشأن القرآن وأنه كلام الله.
7- وصفهم لصفة من صفات الله وهي الكلام بأنها مخلوقة -تعالى الله وتقدس-.
8- دعواهم أن علم الله أو جزء من علم الله مخلوق وهذا كفر أكبر.
• ووصفنا للسجزي "بالجهمي" حق حسب الظاهر ومن لم يجهمه فهو جهمي عاذري، مع أن كتبه نافعة (كالحرف والصوت) في رده على "أهل زبيد"، وقد خالف الإجماع بكذبه على السلف والأئمة بدعوى خلافهم في كفر (الجهمية الخلقية) هل هو من الأكبر أو من الأصغر؟!
• ووصفنا للسجزي "بالجهمي" حق حسب الظاهر ومن لم يجهمه فهو جهمي عاذري، مع أن كتبه نافعة (كالحرف والصوت) في رده على "أهل زبيد"، وقد خالف الإجماع بكذبه على السلف والأئمة بدعوى خلافهم في كفر (الجهمية الخلقية) هل هو من الأكبر أو من الأصغر؟!
- والإجماع على تكفير من شك ولم يكفرهم، فكيف بمن يدعي أنها خلافية حتى لو رجح تكفيرهم فهو جهمي لأنه بدعواه خلاف السلف فيها جعل الخلاف في تكفيرهم سائغا.
-> اقرأ أيضا: 📥 [ضلالات "السجزي" في رسالته لأهل زبيد].
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين.