فائدة حول حديث: "إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَمْنَعُ يَدَ لَامِس"


 

 
 
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
 
- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاَةُ وَالسَّلَاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ، نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:
 
1/- من الأحاديث المشكلة التي يستدل بها بعض أهل الزندقة والعلمنة والنفاق والدياثة وبعض أدعياء العلم من أهل الأهواء ما روي عن ابن عباس:
 
←(2049) قَالَ أَبُو دَاوُدَ: كَتَبَ إِلَيَّ حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ الْمَرْوَزِيُّ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ أَبِي حَفْصَةَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي لَا تَمْنَعُ يَدَ لَامِسٍ. قَالَ: "غَرِّبْهَا". قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي.قَالَ: "فَاسْتَمْتِعْ بِهَا".[رواه أبوداود والنسائي والبزار والبيهقي وغيرهم].
 
هذا الحديث ضعيف لا يصح ولو صح على قول بعضهم فلا دلالة فيه على المعنى الفاسد الذي فهموه منه لكون هذا الحديث محتمل الدلالة غير صريح المعنى وهو متشابه غير محكم، فله عدة محامل تصرفه عن المعنى الأسوأ الذي فهموه.
 
- ومع ذلك فقد تجرأ بعض من رَقَّ دينهم وضَلّ سعيهم ونقصت مروءتهم وغيرتهم فقالوا بجواز أن تبقى في عصمة الرجل تلك الزانية المستمرئة للفجور المدمنة على الخنا والعلاقة المحرمة مع الزناة وفساق الرجال! وبعضهم طعن في الإسلام لأجل ذلك.
 
- ومنهم زعم الأخذ (بظاهر الحديث حسب زعمه) من أدعياء الدين والعلم وقال بجواز البقاء مع زوجته التي زنت مرة من المرات دون المومس التي تمارس الفاحشة مع كل من راودها ودعاها للفاحشة الكبرى وكان ذلك ديدنها، وادعى دلالة النص على المعنى الذي اختاره بعقله وهواه خصوصا دون غيره!
 
- وهذه الانتقائية من هذا الدَّعِيِّ المفتون لا نسلم له بها بل نلزمه (حسب منهجه في الفهم بظاهر الحديث) فنقول هذه المرأة حسب ظاهر الحديث -حسب فهمك ومنهجك في الاستدلال- لا تدل على مجرد ما ذكرت من وقوع الزنا مرة ونحوها ثم تراجعت بل هي مدمنة مستمرئة للزنا والفاحشة ولم تتب ولم تقلع ولم تتراجع فهي بذلك مومس ديدنها تمكين كل رجل أرادها من نفسها وليست امرأة صالحة وقعت في الزنا كزلة ثم تابت وتراجعت، ودلالة ظاهر الحديث حسب فهمك جواز أن يُبْقِيَ الرجل هذه المومس في عصمته فيكون ديوثا دنيئا حقيرا لأن زوجته تزني مع كل من أرادها من الرجال، وبذلك فهذه المرأة حسب منهج هذا المفتون في فهم ظاهر الحديث ليست إلا مومس متمرسة في الفاحشة وليست كمن يزل زلة ثم يراجع!
 
”ونقول له إذا أردت الاستدلال فخذ بهذا الظاهر ولا تأخذ منه شيئا وتدع شيئا، ويلزمك حسب ظاهر الحديث كما زعمت تجويز غاية الدياثة بإبقاء المومس المتمرسة في الفاحشة وتمكين الرجال من نفسها في عصمة الرجل المسلم! ولا يمكن تفسير الحديث بغير ذلك حسب ما زعموه من منهجهم في الأخذ بظاهر الحديث حسب فهمهم، وظاهر دلالة الحديث لا تدل بالضرورة على ما فهموه“
 
2/- الراجح أن هذا الحديث ضعيف فقد ضعفه أغلب المتقدمين، ورواية أبو داود له يدل أن بعض المتقدمين قد حسن إسناده نظرا لشرط أبي داوود فيما يرويه؛ ولكن لم يشتهر تصحيحه إلا عند بعض المتأخرين من القرن السابع مع توجيه أغلبهم لمعناه، وحتى من فسر عملها بالفجور فلا يلزم منه الزنا الصريح والفاحشة الكبرى.
 
- وقد ضعفه أحمد وأبو حاتم والخلال في العلل والنسائي وابن عدي والبيهقي وابن الجوزي (الجهميان) وغيرهم، ومع تضعيف النسائي له إلا أن تبويبه له مشين غير صحيح حيث بوب له [بنكاح الزانية] مع أنه ضعف الحديث ولم يحتج به ولكن تبويبه أوهم المعنى الفاسد، وقد ذكر عقب تخريجه أنها تعطي من ماله (أي بدون إذنه) لا أنها زانية.
 
- ونقل ابن الجوزي -الجهمي- عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: "لا يثبت عن النبي في هذا الباب شيء، وليس له أصل" اهـ، وقد عده ابن الجوزي -الجهمي- في الموضوعات وقد نقل عن أحمد -رحمه الله- أنه قال: "لم يكن ليأمره بإمساكها وهي تفجر" اهـ.
 
وأغلب من صححه فقد حمله على محامل وأوجها تصرفه عن مناقضة ومصادمة الأصول المتقررة ولاسيما والحديث في أصله محتمل غير صريح فهو من المتشابهات لا المحكمات.
 
- وممن يضاف لمن ضعّف الحديث يحيى بن سعيد القطان، وتلميذه الفلاس.
 
← قال الفلاس في "علله'' (٣٩): وقلت ليحيى بن سعيد إن أبا داود حدثنا عن حماد بن سلمة، عن هارون بن رئاب، عن عبد الله بن عبيد (عن ابن عباس) أن رجلا قال: "يا رسول الله إن لي امرأة لا تمنع يد لامس .."، فأنكره يحيى وقال: سمعت (ابن جريج) يقول حدثني عبد الله بن عبيد "أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم" مرسل. 
- قال: و (قال حماد بن زيد)، عن هارون بن رئاب، وعبد الكريم المعلم، عن عبد الله بن عبيد قال قال أحدهما عن ابن عباس فقال يحيى أبو داود: "لا يفصل بين هذين".
 
ومن فسره بإقرار البقاء مع الزانية الفاجرة التي تمارس الفاحشة الكبرى وتمكن كل من أرادها من الرجال دون توجيه للحديث وحمل له على محامل تصرفه عن هذا المعنى الفاسد فهو ضال مضل زائغ القلب والفهم ولم يصرح أحد من المتقدمين بذلك.
 
- وتفسير بعضهم لفعلها بالفجور لا يلزم منه الزنا الصريح والفاحشة الكبرى كما سنبينه، وأما تصريح مثل الخطابي -الجهمي- بأنها زانية (بصريح اللفظ) فلا يعتد به فالخطابي قد ضل في باب توحيد الله وصفاته بتأويله للصفات فلا يتعجب من ضلاله هنا وقد قيل بأنه تراجع في كتابه -الغنية- ولكنه في هذا الكتاب حين تكلم عن اتصاف الله باليد نفى أن تكون جارحة وهذا تدخل بالرأي في كيفية الصفة كعادة الجهمية الأشاعرة لنفي حقيقة الصفة والنصوص أثبتت حقيقة صفة اليد والسلف أثبتوا حقيقتها و في مثل هذه الألفاظ (الجارحة) لايثبتون ولا ينفون ولا يتدخلون في كيفية الصفة بعبارات تدل على نفي حقيقتها أو تأويلها وتحريفها أو تشبيهها بالخلق، والمقصود أن الخطابي سواء تراجع عن تجهمه أم لم يتراجع ليس بحجة ولا تهدم الأصول بكلام من هو خير منه وأعلى منزلة.
 
* فكيف يراد هدم الأصول بمثل كلامه؟!
 
ومجرد تصحيح الحديث لا يدل على ذلك الفهم المنحرف والقول الفاسد المضل كما يحاول بعضهم الإيهام بذلك.
 
▪ ومن توجيههم للحديث:
 
أ/- أنه ظن بها ذلك لقرائن عنده دون جزم وتوهم ذلك منها لأجل ذلك.
 
ب/- قالوا تعطي من ماله بغير إذنه قاله الإمام أحمد وإمام اللغة الأصمعي والنسائي عقب تخريجه للحديث وغيرهم، ومن رد ذلك من جهة اللغة فقال بأنه لو أراد ذلك لقال (يد ملتمس لا لامس) وأن تفسير ذلك بالعطاء خطأ لغوي، فنرد عليه بمايلي:
 
← لا نسلم بأن ذلك خطأ في اللغة لأن من قال بصحة هذه الصيغة ودلالتها على العطاء علماء وأئمة في اللغة كالإمام الأصمعي والإمام أحمد قال ذلك وهو أيضا إمام في اللغة والعربية بشهادة الإمام الشافعي وغيره والأصمعي وأحمد أعلم بمراحل من القاضي أبو الطيب باللغة ولسان العرب وقوله ليس بحجة ولا سيما وقد خالف من هو أعلم منه باللغة.
 
← صيغ التعبير في اللغة متعددة، وكون بعضها أشهر وأكثر استعمالا لا يدل على عدم صحة دلالة الصيغ العربية الأخرى على ذات المعنى وعليه فصحة دلالة (لا ترد يد ملتمس) على العطاء لا تنفي صحة دلالة (لا ترد يد لامس) على العطاء أيضا.
 
← واعتراضهم بأن المنفقة المتصدقة من مال زوجها سخية لا يؤمر بطلاقها، وهذا الاعتراض نقض لطريقتهم في الاستدلال لأنهم تركوا منهجيتهم في الاستدلال بظاهر الحديث حسب فهمهم ورجعوا للأصول المقررة في أدلة أخرى وهي أن الطلاق مكروه وأن المتصدقة لا تستحق التطليق بمجرد ذلك وأن هذا سخاء!
 
ونقول لهم لو استخدمتم هذه المنهجية في أصل معنى الحديث ولم تحملوه على ما يناقض الأصول المحمكة لسلمتم من التناقض.
 
”ونقول أيضا بل الرجل إذا منع زوجته ولم يسمح لها بإهدار ماله وتضييعه وضاق بها ذرعا لتكرارها لذلك ولا سيما وقد منعها من ذلك وأظهر شدة حاجته لهذا المال الذي يدخره فمخالفتها هنا نوع من الخيانة المالية له واعتداء على حقه وله أن يطلقها ولا يمنع من ذلك شرع ولا عرف ولاعقل، ولا وجه لاستبعاد ذلك ولا تسمى سخية بذلك الإهدار لمال زوجها وقد منعها وأظهر حاجته لهذا المال بل هي خائنة له مضرة به لا سخية كريمة“
 
ج/- تفسير أبي عبيد وغيره بأن المراد الفجور لا يلزم منه أنها من الزواني التي تمارس الفاحشة وتمكن كل من راودها من نفسها ولكن فعلها نوع من الفجور بالتهاون والتساهل والتوسع في مثل مصافحة الرجال وعدم النفرة من ملامسة يد الرجال لها كحال بعض الرجال ممن يخجل ويضعف فيصافح الأجنبيات إذا مدت له إحداهن يدها، ولا يلزم من ذلك أنها مومس تمكن كل من أرادها وتقبل بالفاحشة والزنا الصريح بها ومع أن فعلها هذا من الفجور إلا أن هذا يختلف عن حال المومس التي تمارس الفاحشة وتمكن كل من أرادها من نفسها، ولم يصرح أحد من الأئمة المعتبرين بأنها زانية تمارس الفاحشة الكبرى مع كل من دعاها لذلك.
 
• وأما قول "الخطابي" وغيره لذلك فلا حجة فيه كما سبق بيانه، والحديث لا يصح ولو سلمنا بصحته لم يكن فيه أي دلالة على أنها زانية قد أقر زوجها على إبقائها في عصمته مع فجورها وتمكينها للرجال من نفسها.
 
فالحديث محتمل غير صريح الدلالة وهو من المشتبهات كما سيأتي بيانه، فوجب حمله على الأصول المتقررة التي تواردت عليها صريح الأدلة وانعقد عليها الإجماع لما يلي:
 
1/- هذا الفهم الخاطئ للحديث يناقض ما علم من دين الإسلام بالضرورة من تحريم الزواج من الزانية بنص آية النور وهذا تحريم صريح بَيِّنٌ جَلِيٌّ محكم للمسلم بأن يصاحب ويتزوج الفاجرة ويبقيها في عصمته.
 
وهذا الفهم الفاسد للحديث يناقض صريح النصوص في ذم الديوث والدياثة فلا يمكن أن يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل أن يكون ديوثا ويبقي زانية فاجرة تمكن كل من أرادها من نفسها في عصمته.
 
- وقد جاءت النصوص الصريحة بتحريم الزواج من الزانية وذم الديوث والدياثة:
 
← وقد قال الله عز وجل﴿الزَّانِي لَا يَنكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ۚ وَحُرِّمَ ذَٰلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِين﴾{03| النور}.
 
- ونصوص ذم الديوث وتحريم الدياثة مثل مارواه أحمد والنسائي وغيرهما:
 
← أَخَرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِه (6180)، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: أَشْهَدُ لَقَدْ سَمِعْتُ سَالِمًا، يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثَلَاثٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ بِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ الْمُتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ، وَالدَّيُّوثُ، وَثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ بِوَالِدَيْهِ، وَالْمُدْمِنُ الْخَمْرَ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى".
 
- وما جاء عند أحمد وأبي داود والنسائي من مدح الغيرة ومحبة الله لها:
 
← أَخَرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي سننِهِ (2659)، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: "مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمِنْهَا مَا يُبْغِضُ اللَّهُ؛ فَأَمَّا الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ، وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ رِيبَةٍ. وَإِنَّ مِنَ الْخُيَلَاءِ مَا يُبْغِضُ اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا يُحِبُّ اللَّهُ؛ فَأَمَّا الْخُيَلَاءُ الَّتِي يُحِبُّ اللَّهُ فَاخْتِيَالُ الرَّجُلِ نَفْسَهُ عِنْدَ الْقِتَالِ، وَاخْتِيَالُهُ عِنْدَ الصَّدَقَةِ، وَأَمَّا الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ فَاخْتِيَالُهُ فِي الْبَغْيِ". قَالَ مُوسَى: "وَالْفَخْرِ".
 
2/- عند تسليمنا بصحة هذه الرواية الضعيفة فنقول معناها ودلالتها محتملة ملتبسة موهمة غير صريحة وليست جلية واضحة فهي بذلك من المتشابهات التي يجب ردها للمحكمات البينات الجليات وهذه قاعدة شرعية نص عليها القرآن والسنة وأقوال الصحابة والسلف ومن بعدهم وسنشير للأدلة على هذه القاعدة لاحقا بإذن الله، والحديث له محامل وأوجه معتبرة تجعله موافقا للأصول المحكمات البينات الجليات وهذا هو الواجب علينا تجاه أمثال هذه النصوص المفردة المتشابهة المحتملة.
 
”فإذا كانت دلالة الحديث مشتبهة محتملة ويقابلها أصل محكم مقرر تواردت عليه صريح النصوص وانعقد عليه الإجماع وهو التحريم الصريح للزواج والبقاء مع الزانية التي لا ترد زانيا أرادها والتي تمكن نفسها لكل فاجر وعدم جواز إبقائها في العصمة وتحريم وذم الديوث والدياثة وهذا أصل من الأصول الظاهرة البينة الجلية المتقررة في باب النكاح ولا يحتمل اللبس والغموض وقد انعقد عليه الإجماع فهو بذلك من المحكمات“
 
▪ وتقرير أن ذلك من الأصول المحكمات البينات [في باب النكاح] لما يلي من الأسباب:
 
أ/- لكونه معلوما بالضرورة من دين الإسلام.
 
ب/- قد ركزه الله وأودعه في الفطر والعقول فكل عاقل سليم الفطرة يعلم قبح ذلك ودناءته وذم الرجل الذي يقبل بذلك شرعا وعقلا وعرفا.
 
ج/- ولكونه أصلا قد تواردت عليه صريح الأدلة.
 
د/- وانعقد الإجماع على تحريم الزواج من الزانية وإبقائها في العصمة وتحريم الدياثة وذم الديوث.
 
• فهو بكل ما تقدم ذكره يعد أصلا من الأصول الصريحة البينة الجلية في [باب النكاح] وهو بذلك من المحكمات البينات الجليات،والمتشابه يرد للمحكم ومن تعلق وتشبث بالمتشابه المحتمل غيرالصريح وترك الأصل المحكم الصريح البين الجلي فهو زائغ مفتون ضال مضل،ومن ادعى جواز البقاء مع زوجة زانية مستمرئة للزنا تمكن نفسها من كل فاجر أرادها فهو ضال مضل ديوث لا دين ولا شرف ولا مروءة.
 
- وقد جاء صريحا في آية 7 من آل عمران:
 
← قال الله تعالىٰ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابَ﴾.
 
- وما جاء في تفسيرها من حديث الصحيحين وغيرها من الآثار بهذا الشأن لتقرير قاعدة أن لا تهدم المحكمات من الأصول المتقررة التي تواردت عليها الأدلة الصريحة وانعقد عليها الإجماع بنصوص مشتبهة مفردة محتملة مخالفة في الظاهر (حسب بعض الأفهام) للأصول المحكمة، وحتى لو كانت هذه النصوص صحيحة صريحة فهي أيضا لا تخرج عن المتشابهات لمخالفتها للأصول المحكمات التي تواردت عليها الأدلة والإجماع.
 
← أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ (2665)، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}". قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ، فَاحْذَرُوهُمْ".
 
← أَخَرَجَ اِبْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٍ مُحْكَمَاتٍ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ". فَالْمُحْكَمَاتُ نَاسِخُهُ وَحَلالُهُ وَحَرَامُهُ وَحُدُودُهُ وَفَرَائِضُهُ، وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَيُعْمَلُ بِهِ.
 
- وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ وقتادة وَالضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَالسُّدِّيِّ قَالُوا: الْمُحْكَمُ الَّذِي يُعْمَلُ بِهِ.
 
← وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ". فَالْمُتَشَابِهَاتُ: مَنْسُوخُهُ وَمُقَدَّمُهُ، وَمُؤَخَّرُهُ، وَأَمْثَالُهُ وَأَقْسَامُهُ وَمَا يُؤْمَنُ بِهِ وَلا يُعْمَلُ بِهِ.
 
- وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: بَعْضُهُ يُصَدِّقُ بَعْضًا.
 
- وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَقَتَادَةُ: هُوَ الْمَنْسُوخُ الَّذِي يُؤْمَنُ بِهِ وَلا يُعْمَلُ بِهِ.
 
← وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ". يَعْنِي أَهْلَ الشَّكِّ.
 
- وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَالسُّدِّيِّ قَالا: شَكٌّ.
 
← وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ:"فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ". قَالَ: فَيَحْمِلُونَ الْمُحْكَمَ عَلَى الْمُتَشَابِهِ. وَالْمُتَشَابِهَ عَلَى الْمُحْكَمِ وَيَلْبِسُونَ، فَلَبَّسَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
 
← وعَنِ السُّدِّيِّ: قَوْلُهُ: "ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ": إِرَادَةَ الْفِتْنَةِ، وَهُوَ الشِّرْكُ.
 
- وَرُوِيَ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ نَحْوُ ذَلِكَ.
 
←وعن مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَوْلُهُ: "ابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ". مَا تَأَوَّلُوا وَزَيَّنُوا مِنَ الضلالة ليجيئ لَهُمُ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنَ الْبِدْعَةَ، لِيَكُونَ لَهُمْ بِهِ حَجَّةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ لِلتَّصْرِيفِ وَالتَّحْرِيفِ الَّذِي ابْتُلُوا بِهِ، كَمَيْلِ الأَهْوَاءِ وَزَيغِ الْقُلُوبِ، وَالتَّنْكِيبِ عَنِ الْحَقِّ الَّذِي أَحْدَثُوا مِنَ الْبِدْعَةِ.
 
← وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ". قَالَ: تَأْوِيلُ الْقُرْآنِ.
 
← وعَنِ الضَّحَّاكِ: "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ". يَقُولُ: الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَهُ، لَوْ لَمْ يَعْلَمُوا تَأْوِيلَهُ لَمْ يَعْلَمُوا نَاسِخَهُ مِنْ مَنْسُوخِهِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا حَلالَهُ مِنْ حَرَامِهِ، وَلا مُحْكَمَهُ مِنْ مُتَشَابِهِهِ.
 
← وعَنْ قَتَادَةَ: "يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ" قَالَ: آمَنُوا بِمُتَشَابِهِهِ وَعَمِلُوا بِمُحْكَمِهِ، فَأَحَلُّوا حَلالَهُ وَحَرَّمُوا حَرَامَهُ.
 
* فكيف لو كان هذا الحديث المفرد محتملا غير صريح الدلالة مع رجحان ضعفه كهذه الرواية؟!
 
← أَخَرَجَ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِه (985)، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِذَا حُدِّثْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثًا فَظُنُّوا بِهِ الَّذِي هُوَ أَهْدَى، وَالَّذِي هُوَ أَهْيَا، وَالَّذِي هُوَ أَتْقَى"، وفي رواية قال: "إذا حدثتم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حديثاً فظنوا به الذي هو أهداه وأهناه وأتقاه".
 
3/- والحديث أخرجه أبو داود، والنسائي في كتابيهما (السنن)، والبزار في (مسنده)، من حديث ابن عباس وأخرجه النسائي من وجه آخر عنه، وأخرجه الخلال في (العلل)، والطبراني في (معجمه)، والبيهقي في (السنن) من حديث جابر.
 
وأما سياق بقية متنه:
 
- ففي رواية أبي داود (2049): جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيهِ وسَلَّم فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي لاَ تَمْنَعُ يَدَ لاَمِسٍ قَالَ: غَرِّبْهَا قَالَ: أَخَافُ أَنْ تَتْبَعَهَا نَفْسِي، قَالَ: فَاسْتَمْتِعْ بِهَا.
 
- وفي رواية النسائي (5629) مثله.
 
- وفي رواية أخرى للنسائي 6/160 - (5320): إِنَّ تَحْتِي امْرَأَةً جَمِيلَةً لاَ تَرُدُّ يَدَ لاَمِسٍ، قَالَ: طَلِّقْهَا، قَالَ: إِنِّي لاَ أَصْبِرُ عَنْهَا، قَالَ: فَأَمْسِكْهَا.
 
- وفي أوله 6/67 - (5321): إِنَّ عِنْدِي امْرَأَةً، هِيَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَهِيَ لاَ تَمْنَعُ يَدَ لاَمِسٍ، قَالَ: طَلِّقْهَا، قَالَ: لاَ أَصْبِرُ عَنْهَا، قَالَ: اسْتَمْتِعْ بِهَا.
 
- وفي رواية البيهقي 7/155 (13874): أَنَّ رَجُلاً جَاءَهُ فَقَالَ: إِنَّ لِي امْرَأَةً لاَ تَمْنَعُ يَدَ لاَمِسٍ قَالَ: فَارِقْهَا قَالَ: إِنِّي لاَ أَصْبِرُ عَنْهَا قَالَ: فَاسْتَمْتِعْ بِهَا.
 
وأما معناه ومن تكلم عليه:
 
- فقد وقع ذلك في كلام أبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي عبد الله ابن الأعرابي، والأصمعي، والإمام أحمد بن حنبل، والخطابي، والقاضي أبي الطيب الطبري، وآخرون ممن بعدهم.
 
- معنى قوله: (لاَ تَمْنَعُ يَدَ لاَمِسٍ)، كناية عن الفجور، وهذا قول أبي عبيد، وابن الأعرابي، وبه جزم الخطابي، في (معالم السنن)، وشرح الحديث فقال: معناه الريبة، وأنها مطاوعة لمن أراده، لا تريده.
 
قد ذكرنا فيما سبق أن الفجور لا يلزم منه الفاحشة الكبرى والزنا الصريح ولو سلمنا أن بعضهم قصد به الزنا فقول شاذ باطل فاسد وليس في كلامه حجة أصلا.
 
- وقوله: ( غَرِّبْهَا)، بالغين المعجمة، فعل أمر من التغريب، معناه الطلاق، وأصل الغرب في كلام العرب: البعد.
 
قلت: وقع في رواية البزار، في (مسنده) بلفظ: (طَلِّقْهَا)، وهو شاهد لتفسير الخطابي، وكذا الرواية في حديث [ل1ب] جابر (فَارِقْهَا)، هذا معناه.
 
- وقال الخطابي -الجهمي- وبعض من قلده وتبعه على ذلك: وفي الحديث دليل على نكاح الفاجرة وإن كان الاختيار غير ذلك.
 
والخطابي قد سبق له القول بقول الجهمية والمؤولة الضالين فلا يستغرب ضلاله في هذه المسألة وغيرها وليس في قوله حجة أصلا فلا يؤخذ بقوله ولا يعتد به.
 
- وقال الخطابي بقول فاسد عار عن الصحة واستدل باستدلالات واهية بعيدة ضعيفة، قال: ومعنى قوله (استمتع بها) أي: لا تمسكها إلا بقدر مضي سعة النفس منها، ومن وطره والاستمتاع بالشيء الانتفاع به إلى مدة، ومنه نكاح المتعة، ومنه قوله تعالى: { إنما هذه الحياة الدنيا متاع} أي: متعة إلى ثم تنقطع، انتهى كلامه.
 
وما تقدم قول فاسد لا عبرة به لأن المحرم ولا سيما الكبائر يجب الإقلاع عنها على الفور وقياسه على نكاح المتعة المحرم من أفسد الاستدلال وأبعده.
 
- وقال بعضهم قد ترجم أبو داود على هذا الحديث (نكاح الأبكار)، وكأنه يشير إلى نكاح البكر، أولى من نكاح الثيب، الزنا يقع من الثيب أغلب مما يقع من البكر.
 
وهذا توجيه لا يصح وإنما يحمل على أن نفرة البكر من الأجانب أشد وهذا باعتبار نوع الفجور الأدنى الذي أشرنا إليه سابقا.
 
- وترجم له النسائي (نكاح الزانية) ولكنه ضعف الحديث وأيضا قد ذكر احتمال معنى العطاء وليس الفجور.
 
• وتبويبه غير صحيح ولاحجة فيه.
 
- وقيل بأنها (متبذرة)، قال أبو بكر الخلال :قيل للإمام أحمد بن حنبل: إن أبا عبيد يقول: هو من الفجور (وقد بينا أنه لا يلزم منه الزنا الصريح والفاحشة الكبرى)، فقال أحمد: ليس هو عندنا إلا أنها تعطي من ماله.
 
- وذكر عبد الحق في (الأحكام) أن أبا الحسن بن صخر، روى في (فوائده)، عن الأصمعي، أنه كناية عن بذلها الطعام.
 
- وقال النسائي عقب تخريجه: قبل كانت تحته تعطي.
 
- وقال القاضي أبو الطيب الطبري: القول الأول أولى، لأنه لو كان المراد به السخاء لقيل: لا ترد يد ملتمس، لأنه لا يعبر عن الطلب باللمس، وإنما يعبر عنه بالالتماس. يقال: لمس الرجل إذا مسه، والتمس منه إذا طلب منه (وهذا القول قد سبق ردنا عليه).
- ثانيهما أن السخاء مندوب إليه ولا تعاقب بذاك [ولكن إن كان من مال زوجها بغير إذنه فلا سخاء هنا بل اعتداء وتجاوز ولا سيما إن كان قد منعها وهو في حاجة ماسة لماله (وهذه خيانة لزوجها في ماله)].
 
 
 
 وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه أجمعين 
 

 

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *