حكم شهادة البدوي على القروي الحضري، ومعنى الحديث الذي منع من ذلك بتفسير حديث "لا تَجوزُ شَهادةُ بدَويٍّ على صاحبِ قَرْيةٍ"؟





حكم شهادة البدوي على القروي الحضري، ومعنى الحديث الذي منع من ذلك بتفسير حديث "لا تَجوزُ شَهادةُ بدَويٍّ على صاحبِ قَرْيةٍ"؟

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاَةُ وَالسَّلَاَمُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ، نَبِيَّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ، وَعَلَى آله وَصَحْبِهِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أَمَّا بَعْدُ:

- أولا: لايجوز ولايصح تقديم قول المتأخرين على السلف في قرونهم المفضلة، وعليه فرد بعض المتأخرين في القرن السابع "كالذهبي" للحديث ووصفه بنكارة المعنى لأنه مخالف لعموم النصوص الأخرى! غير صحيح ولايلتفت له لأن السلف في قرونهم المفضلة لم يرد عن أحد منهم رد الحديث بدعوى نكارة معناه، والظاهر أن سبب رد الذهبي له بالنكاره لفهمه الخاطئ للحديث حيث فهم منه أنه لعلة وصف الأعرابية وأن ذلك متعلق بصفة ذاتية في بعض الأعراب من جهة الخلق والتدين، والعلم...، وهذا غيرصحيح فالحديث خاص بوصف البداوة لا لوصف الأعرابية لعلل وأسباب متعلقة بصحة وتمام ومصلحة ماتتعلق به الشهادة، وحتى من فهمه من المتقدمين بأنه وصف لصفة ذاتية في بعض الأعراب -ومع أن هذا الفهم غير صحيح- لم يحكم أحد منهم بنكارته بل قبل الحديث.

- ثانيا: يجب سلوك منهجية علمية عند تناولنا لأي مسألة أومعنى حديث ومن ذلك:
أ/- لفهم وضبط حقيقة المسائل ومعناها الصحيح وإصابة الحق في حكمها ومعناها سواء كانت المسألة متعلقة (بمعنى حديث وتفسيره أوبيان حكم شرعي) يجب لتحقيق ذلك جمع النصوص والآثار المتعلقة بالمسألة (سواء كانت دلالتها مباشرة، أو مفهومة دلت عليها النصوص والآثار).
ب/- جمع مايماثلها ويشبهها من النصوص والآثار في أبواب أخرى فمثلا لفهم ما ورد فيه من حكم خاص للبدوي الأعرابي والحضري القروي يجمع أمثاله من النصوص في مسائل أخرى والتي خصصت البدوي الأعرابي والحضري القروي بحكم خاص، وذلك لفهم حقيقة معنى وعلة هذه المسائل، ومن أمثلة ذلك مسألة شهادة البدوي على القروي الحضري، ويماثلها بيع البادي للحاضر وعلاقة المسألة بالسمسرة في البيع، وتلقي الركبان، -وتنبه لهذا اللفظ والوصف الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم، فالحديث نص على وصف البداوة ولم يعلقه بصفة الأعرابية..فتنبه-، وبذلك يفهم الباحث وطالب العلم أن هناك علة وسببا متعلقة بصحة البيع و الشهادة، وبذلك يتبين خطأ من فهمها أنها معلقة بمن كان أصلا من الأعراب حتى لو زالت تلك العلة.
• والتنبيه هنا على خطأ وقع فيه البعض وهو تفسير البدوي بالأعرابي مطلقا وهذا غير صحيح؛ فالبدوي هنا وصف له علة مخصوصة فهو لايتناول الأعرابي المقيم في الحاضرة والقرية، فالبدوي هنا ليس هو الأعرابي الذي أقام من مدة في الحاضرة والقرية، لأن الحكم معلق بصفة البدوي وهو الساكن بالبادية سواء كان أصلا من الأعراب أو هو من أهل الحاضرة والقرى في الأصل ولكنه سكن البادية و أقام بها، ووصف البدوي أشمل وأعم من وصف الأعرابي من جهة الأصل.
ج/- جمع ماتفرق من كلام المنسوبين للفقه والعلم في المسألة، فكم من الفتاوى أو الشروح والكتب غفلت عن نصوص صريحة في المسألة وغفلت عن علل معتبرة ذكرت في كتب بعض المتقدمين (وهو الغالب) أو المعاصرين أيضا، مع اشتراط تقديم دلالة النصوص وفهمها الصحيح بآثار السلف المبينة لها في أجيالهم الثلاثة ويلتحق بهم الجيل الرابع جيل الإمام أحمد وابن راهويه -رحمهم الله-.
د/- ومعرفة علة وسبب الحكم التي دلت عليها النصوص بصورة صريحة منطوقة أو مفهومة دلت عليها النصوص الأخرى.

ومعنى وتفسير هذا الحديث كما يلي:
1)- لفهم حقيقة معنى وسبب وعلة الحكم الوارد في هذا الحديث يجب قرنه بما يماثله ويشابهه من النصوص المخصصة (لوصف البداوة) بحكم معين كحديث صحيح مسلم وغيره الوارد في النهي عن "بيع حاضر لباد"، فالحديثان متعلقان بصفة البداوة لعلة صحة وكمال ومصلحة البيع والشهادة وليس لهما أي علاقة بصفة دينية وخلقية في الأعراب المبتعدين عن العلم والتدين كما فهم البعض من حديث الشهادة هنا، وهذا القرن بين هذين الحديثين اللذين علقا الحكم بوصف البداوة تحديدا سيوضح حقيقة المعنى وفهم المسائل المتعلقة بذلك وعلتها، وهذا من شروط فهم المسائل والنصوص التي تعتمد على جمع الأشباه و النظائر من النصوص.
- وبذلك فدلالة الحديثين على علة متعلقة بصحة ومصلحة (الشهادة والبيع) وكمالها وتمامها، وليس لهما أي علاقة -بصفة الأعرابية إذا انتفت العلة- فتنبه لذلك، ولذلك اختير وصف البداوة دون وصف الأعرابية؛ وصفة البادي (البدوي) الواردة في النصوص أشمل وأعم من صفة الأعرابي من جهة الأصل كما أوضحنا ذلك آنفا.
• وعلى ذلك فتفسير البعض له بعموم وصف الأعرابية لغلبة صفة خلقية ودينية في بعض الأعراب (والتي لاعلاقة لها بشروط وعلل صحة وكمال ومصلحة البيع والشهادة) من الخطأ البين الواضح كما سيتبين بإذن الله من خلال هذا البحث.
2)- قد ثبتت أحاديث بقبول شهادة العدل من الأعراب كحديث "ثبوت هلال رمضان" وهذه من أهم الشهادات لتعلقها بركن من أركان الإسلام.
* فكيف يفهم من حديث النهي عن قبول شهادة البدوي على صاحب قرية (حاضر، حضري) عدم قبول شهادة الأعراب بعد ذلك؟!
• وعلى ذلك فيجب الجمع بين الروايات المتماثلة المتشابهة في وصف معين لفهم المراد منها.
3)- وبما تقدم يتبين أن تفسير الحديث بأنه حكم متعلق بوصف الأعرابية لعلة غلبة الجفاء والجهل وعدم العدالة -في كثير من الأعراب المبتعدين عن العلم والتدين- تفسير مخالف لصريح النص بمساواة شهادة الأعراب بأهل الحاضرة إذا توفر وصف العدالة وغيره من الشروط، فالأعراب كأهل الحاضرة فيهم أهل العدل والصدق وغيره، والحديثان لاعلاقة لهما بوصف الأعرابية.
والقروي هو الحاضر "الحضري" وهو المقيم في الحواضر وهي القرى والمدن، والمدن تعد لغة من القرى.

4/- معنى وتفسير الحديث يتبين من علل وأسباب النهي عن قبول شهادة البدوي على الحضري القروي وهي كما يلي:

- السبب الأول: غلبة تعذر إيجاد البدوي عند الحاجة لحضوره للشهادة وهذا في بعض القضايا، ولكن شهادة البدوي المقيم في البادية العدل فيما يقام فيه الحكم بمجرد الشهادة ولايحتاج غالبا لطلب الشهادة وحضور الشاهد مرة أخرى ولضرورة قبولها في هذه الأمور مثل القتل والزنا والجراحات والقذف ونحوها وكذلك دخول الشهر برؤية الأهلة، ولا تقبل شهادة البدوي فيمايحتاج فيه للشهادة وحضور الشاهد مرة أخرى بعد مدة قد تصل لسنوات كالديون والمعاملات والبيوع والزواج فلا تقبل شهادة البدوي لأن الأصل في أهل البادية الرحيل وعدم الاستقرار في مكان فيتعذر إيجاده عند الحاجة إلى حضوره للشهادة، وهذا أحد علل وصور المنع من قبول شهادة البدوي.

- السبب والصورة الثانية من أسباب منع شهادة البدوي على الحضري القروي: لأنه من الريبة في صاحب الدعوى المالية مثلا تركه لشهادة من في الحاضرة (المطلعين غالبا على أحوال صاحب الحق المشهود له) وذهابه لبدوي غير مطلع غالبا على أحوال أهل الحاضرة لطبيعة حياته ومعيشته وإقامته بعيدا عن أهل الحاضرة وهذه قرينة غالبة لعدم اطلاعه على معاملات أهل الحاضرة بخلاف أهل الحاضرة القريبين من صاحب الدعوى.

- السبب والصورة الثالثة للمنع: الشاهد لأحد أوعلى أحد يشترط معرفة حاله (لتصح وتقبل شهادته) ممن خالطه وعرفه ليتحقق من توفر صفة العدالة والصدق...، والبدوي المقيم في البادية غالبا يكون مجهول الحال عند أهل الحضر لأنه ليس منهم ولعدم خلطته بهم غالبا، وهذا أحد علل المنع.

- السبب والصورة الرابعة: من المحامل للنهي في الحديث حمل الحديث على حوادث معينة خاصة كتلك التي من طبيعتها أن تشتهر بين أهل الحاضرة ويعلم بها الكثير منهم كالزواج والبيع فمن الريبة ترك مدعي الحق أهل الحاضرة (ممن اشتهر بينهم الأمر واطلعوا عليه) وعدوله لرجل من البادية ممن يغلب عدم اطلاعه على تلك الحادثة المشتهرة بين أهل الحاضرة.
• وهذه العلل الأربع والأسباب والصور هي المبينة لمعنى الحديث وحقيقة المسألة.

- روى أبوداود في "السنن" (3/306) عن أبي هريرة، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية».
وقد حسنه البزار وغيره، وقال الذهبي في تعليقه على "المستدرك" (4/111) للحاكم: (لم يصححه المؤلف، وهو حديث منكر على نظافة سنده)أهـ.
• ولهذا ذهب أكثر أهل العلم كما حكاه البغوي في "شرح السنة" (10/129) إلى كون شهادة البدوي كالحضري، وقدبينا سابقا الخلل في كلام الذهبي وغيره ممن رد الحديث بدعوى النكارة ومخالفة غيره من النصوص، لأن السلف في قرونهم المفضلة لم يرد أحد منهم هذا الحديث وإنما فسروه وحملوه على محامل وأوجه سبق بيانها.
- كما أنه مخالف لظاهر أقوى من السنة؛ حيث أجاز صلى الله عليه وسلم شهادة الأعرابي في دخول رمضان، ولعل توجيهه على القول بثبوته أنه منع شهادة التحمل، التي يدعى فيها المرء على عقد ينشأ؛ لأن البدوي كثير النقلة؛ فقد لا يوجد إذا طُلب، ولا يدخل في ذلك شهادة الأداء؛ إذا حضر.
- ومن المحتملات: أن ذلك من حوادث الأعيان؛ في بعض القضايا التي يكثر فيها الشهود عادة أو واقعا من أهل القرى فلا يوجد إلا من هو خارجها؛ مما يورث الشك والتهمة، وقد ذكر نحو ذلك ابن رشد في "البيان والتحصيل" (9/ 430).
- وهذا مالك -رحمه الله- الذي لا يرى شهادة البدوي على صاحب القرية طرد هذه العلة؛ فأجاز شهادة البدوي على القروي الذي سكن البادية؛ ما يدل على أن المسألة عنده لا تتعلق بمجرد وصف البداوة؛ وإنما لأجل الشك عند انفراد الغريب عن أهل البلد بشهادة عنهم في موضع الشهرة، ولهذا طرد بعض العلماء الحكم حتى في الوصف؛ فلم يجيزوا شهادة القروي فيما لم يشهده عادة إلا أهل البادية، ذكره ابن رشد في هذا الموضع، وقد نص مالك -رحمه الله- على ذلك بقوله: "فلا شهادة للبدوي في الحضر على حضري، ولا على بدوي لحضري إلا في الجراح والقتل والزنا والشرب والضرب والشتم، وما أشبه ذلك مما لا يقصد إلى الإشهاد عليه، وتجوز شهادتهم فيما يقع في البادية من ذلك كله على الحضري، والبدوي للحضري والبدوي؛ إذا كانوا عدولا؛ لا ريبة في القصد إلى شهادتهم في البادية"أهـ.
- وقال ابن قدامة في "المغني" (10/147) في الاحتجاج للقول الآخر في المذهب وهو قبول شهادته: "ولنا أن من قُبلت شهادته على أهل البدو، قبلت شهادته على أهل القرية، كأهل القرى، ويُحمل الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو، ونخصه بهذا؛ لأن الغالب أنه لا يكون له من يسأله الحاكم، فيعرف عدالته"أهـ.
• وهذا أيضا من المحتملات في الجواب عن ظاهر حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
▪ ومن هنا يظهر ضعف قول قلة من العلماء، والعامة في حكمة ترك شهادة البدوي على صاحب القرية أنه لأجل الطباع من الجفاء والعصبية؛ فإن هذا موجود عند الجميع بين مستقل ومستكثر؛ وإنما الأمر ما ذُكر من محتملات. والله أعلم.


 وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه أجمعين. 


Contact Form

Name

Email *

Message *